المتابعة الدقيقة للشأن الأمريكى الداخلى تشير إلى أن ما جرى فى الولايات المتحدة الأمريكية خلال فترتى رئاسة أوباما(بدأت في2008 ـ وتنتهى فى 2016):
كثير ومثير. فالداخل الأمريكى لم يعد كما هو، وطبيعة وحجم ما طاله من تحولات كبير ونوعي. فى هذا المقام، نشير إلى مئات الكتب التى صدرت خلال السنوات الخمس الأخيرة حول كل مجالات الداخل الأمريكى والأعداد الخاصة من الدوريات المعتبرة لتقييم مرحلة أوباما…بطبيعة الحال سوف يجد القارئ وجهات نظر متنوعة تجاه ما حدث. فالبعض سوف يرى أن أمريكا قد تراجعت كثيرا خلال هذه الفترة، وسوف نجد البعض الآخر يبرز أهمية وصول أوباما إلى سدة الحكم واعتبارها محطة مهمة فى تاريخ رؤساء أمريكا بما حمله معه إلى سدة الحكم من رؤى ومعالجات مغايرة لما سبقه. ولكن، ما يتفق عليه الجميع أن هاتين الفترتين الرئاسيتين هما ـ بحق ـ نقطة تحول حاسمة فى تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية وأن أمريكا كانت تنتظرها وتوقعتها وخططت لها…لماذا؟.
بداية؛ نعود إلى نهاية الحرب الباردة؛ حيث ثار السؤال التالي: هل انتصار أمريكا فى هذه الحرب يعنى أن يتغير السلوك الرئاسي. فالرؤساء الذين كانوا يديرون الحرب الباردة ومن قبلها حروب التوسع الكونية التى خاضتها أمريكا عبر تاريخها كانت تستلزم طريقة معينة فى حكم الإمبراطورية الصاعدة. ولكن انتصار أمريكا على الاتحاد السوفيتى وتتويجها قوة عظمى وحيدة يعنى طريقة حكم مختلفة. بحثا عن إجابة لهذا السؤال اجتهدت المراكز البحثية والمؤسسات الأكاديمية والعقول الاستيراتيجية،…،إلخ. وتأكدت أهمية هذا السؤال عندما ادركت مؤسسات الحكم الدائمة فى أمريكا أن تفرد أمريكا لن يدوم، كما تصوروا، مع صعود قوى كونية أخرى كالصين والهند و،…،إلخ.
فى هذا السياق، نشير إلى دراسة مهمة لأحد أساتذة العلوم السياسية الأمريكيين المعتبرين هوداڤيد لويس سينجرانيللي، بلورت أفكار الكثير ممن اجتهدوا للإجابة عن السؤال المطروح حول رئيس أمريكا المطلوب بعد الحرب الباردة؟…ولكن قبل أن يحدد المطلوب قام بتصنيف الرؤساء الذين حكموا أمريكا تاريخيا وفقا لرؤيتهم الاستراتيجية، ولسياساتهم الخارجية، ولمواقفهم من الشأن الداخلى بملفاته المتنوعة، وجدل العلاقة بين الداخل الأمريكى وخارجه،…فماذا كان تصنيفه وتقييمه؟.
صنف سينجرانيللى رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية إلى ثلاثة أنواع هي: أولا، رؤساء التفرد الأمريكيExceptionalist. ويقصد بهم الرؤساء الذين قدسوا النموذج الأمريكى القيمي. وآمنوا بضرورةتعميمه على العالم بشتى الطرق. وأن النموذج الرأسمالى هو النموذج المثالى والحتمى الذى يجب أن يمتثل له الجميع. وعليه لابد من تشجيع الدول على تبنى اقتصاد السوق والدفاع عن قوانين التجارة الحرة من خلال الشركات متعددة الجنسية وهيئة المعونة الأمريكية. ورأوا أن عدم الاستقرار والفقر فى العالم ناتجان بسبب غياب النموذج الأمريكى المؤسسى فى المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وعملوا عليتشجيع حكومات العالم للمساعدة فى الدفاع العسكرى عن الولايات المتحدة وضمان الوصول إلى الموادالخام الاستيراتيجية فى أى مكان، والتدخل العسكرى متى لزم الأمر.وأخيرا مساندة الحكومات الحليفة ضد الحركات ذات المطالب الاجتماعية. فى هذا التصنيف وضع الرئيسان: وودرو ويلسون وروزفلت
ثانيا، الرؤساء القوميون Nationalists. وهم يتفقون مع رؤساء النوع الأول فى كل شيء فيما عدا نظرتهم إلى عدم الاستقرار فى العالم حيث يرجعوها إلى الصراع بين الشرق والغرب، وإلى أن الطبيعة الإنسانية شريرة. ومن ثم فهناك حاجة إلى ضبط أى فوضى تجتاح النظام الدولي. ومن الرؤساء القوميين نذكر : تافت، وجونسون، ونيكسون، وريجان وبوش الأب.
ثالثا، الرؤساء التقدميون Progressive. وهم يرون ـ على عكس الآخرين ـ بأن عدم الاستقرار والفقرفى العالم ناتجان من عدمالاهتمام بالتوزيع العادل كقيمة من جهة حكومات الدول التى تعانى عدم الاستقرار والفقر ومنحكومات الدول المتقدمةوالمؤسسات المالية الدولية كالبنك الدولي. وعليه لابد من تدعيم خطط التنمية الوطنية الداخلية كذلك دعم الدول التى تبغى التقدم وفقا للنموذج الأمريكي. ودعم تحسين أوضاع حقوق الإنسان.واحترام حق تقرير المصير والحكم الذاتى وعدم مواجهة الثورات الشعبية.وأخيراعدم اللجوء للعنف إلا كحل أخير.والرؤساء الذين يتبعون هذا التصنيف هم: كيندى وكارتر وكلينتون.
نتيجة هذا التصنيف، وفى ضوء التحولات التى بدأت أمريكا تشهدها داخليا على كل المستويات: الاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية،…،إلخ. كذلك التحولات الكونية التى بدأت ارهاصاتها تتضح مع نهاية القرن الماضى. بدأ التفكير بأن الرؤى الرئاسية: التفردية والقومية والتقدمية التى تجسد مصالح مركبة ـ مؤسسات مالية وعسكرية وصناعية وتكنولوجية وكتل تصويتية وجماعات ضغط متنوعة ـ لم تعد قادرة على التعاطى مع جديد التحولات: الداخلية الأمريكية من جهة، والكونية من جهة أخري. ومن ثم بدأ التفكير بضرورة وجود رئاسة تحمل رؤية وصفت “بالتقدمية الراديكالية” Radical progressive، تعنى “برفاه المواطنين والانسانية”، وبمطالب الشرائح الوسطي، وبالتنوع، وبقدر من التدخل الدولى ومواجهة التفاوتات المتنوعة،…،إلخ…وكان باراك أوباما هو الرئيس الذى يحمل هذه الرؤية…ونتابع…