في حواري المعتاد والمستمر مع صديقي، وجدته يقول لي هل تعلم انك أثرت قضية هامة للغاية عندما تعرضت لأوروبا الشرقية. سألته وماهي؟. أجاب قضية التطور «المتباين» بين الدول…
ففيما تفضلت في عرضه ألمحت إلي «تفاوت» مسارات التقدم بين دول أوروبا الشرقية…علي الرغم مما جمع بينهم لعقود من مشترك أيديولوجي تجسد في نظام سياسي واحد ومشتبك، إلا اننا وجدنا بعد تحطيم سور برلين وتفكيك الاتحاد السوفيتي أن هذه الدول تختلف فيما بينها في تطورها. وأن بعضها قد استطاع أن يتقدم وبعضها الآخر يصارع من أجل التقدم. وظني، قالها صديقي بنبرة جادة، أن هذا الاختلاف جدير بتلمس إجابة/إجابات عميقة لهذه الظاهرة.
قلت لصديقي، ولكني حاولت أن أجيب عن ذلك عندما صنفت دول أوروبا الشرقية إلي نوعين. الأول، ينتمي لنمط الإقطاع التقليدي، حيث تعد الأرض الزراعية ملكية خاصة، أي مملوكة لأفراد/عائلات. أما النوع الثاني، فتمتلك فيه الدولة الأرض الزراعية، وتغيب ـ بالتمام ـ الملكية الخاصة للأرض. وعليه، تصبح الدولة في هذا المقام «الإقطاعي الأعظم»(بحسب تعبير كارل ماركس). مما يترتب عليه أن تدير الدولة ـ وبصورة مركزية ـ كل شيء، وخاصة شبكة الري القومية بكل تفاصيلها وبصرامة شديدة.وفي ضوء هذا التمييز بين نمطي الإقطاع قلت أن الدول ـ الاشتراكية سابقا ـ والتي كانت تنتمي تاريخيا للإقطاع التقليدي المملوك لأفراد كانت أسبق في التطور بعد انحلال المنظومة الاشتراكية، وينطبق هذا علي بولندا. بينما الدول التي لم تعرف إلا الإقطاع المركزي «الدولتي» (المملوك للدولة)، فإن تطورها لم يكن بنفس الوتيرة…عند هذه النقطة سارع صديقي وقال لي ولكنك أشرت الي التجليات المذهبية في هذه البلدان وقدمتها وكأنها حاكمة لإيقاع التطور. فاقتربت من منهج هانتي جتون في صدام الحضارات…
لا أظن ذلك، فأنا ممن انتقدت هانتيجتون ومن قبله برنارد لويس، مبكرا، في كتابنا الحماية والعقاب:الغرب والمسألة الدينية في الشرق الأوسط ـ 2000، وفي ترجمتنا وتعليقنا علي نص لويس الغرب والشرق الأوسط ـ1999. فأنا ممن يعتقدون، أن الانقسامات المذهبية جاءت عبر التاريخ كتجليات للتطور التاريخي الذي شهدته المجتمعات المختلفة. وقد ساعدتنا دراساتنا المتعاقبة والتي نتفرد بها في اللغة العربية حول: تجربة لاهوت التحرير، واليمين الديني في الولايات المتحدة الأمريكية، والصهيونية المسيحية، ان ندرك هذه الحقيقة بجلاء شديد…وأذكر في هذا المقام، ما كتبه مبكرا أحد مفكرينا المنسيين الراحلين أمير اسكندر، (جيل وحيد النقاش، وغالي شكري) في كتابه: حوار مع اليسار الأوروبي المعاصر(كتاب الهلال ـ يونيو 1970)، عن علاقة اليسار الأوروبي بالمذاهب المسيحية في أوروبا بأن هذه المذاهب تاريخيا كانت ترتبط ارتباطا وثيقا بالطبقات الإقطاعية». وأنه مع الإصلاح الديني والثورة الصناعية تجددت الكاثوليكية ونشأت البروتستانتية.وتعد بولندا ـ مثالا علي ذلك ـ وكيف أن هذا الارتباط قد أعطي الكاثوليكية البولندية وضعا مميزا جعلها تسمي الدرع الشمالية للكاثوليكية. وبقدر ما كان التحرك المجتمعي يأخذ مداه كانت الكاثوليكية تتجدد من داخلها، والعكس صحيح. حيث تتسلح الكاثوليكية بالمحافظة مع السكون المجتمعي.في المقابل كانت الأرثوذكسية في دول أوربا الشرقية ذات الإقطاع «الدولتي» ترتبط ارتباطا وثيقا بالدولة، بالإضافة للقومية السلافية كرابط حضاري وقومي لأبناء هذه الدول يمنحها التماسك فكان التطور متعثرا. بيد أن الأجيال الجديدة/والطبقة الوسطي البازغة ـ وهذا ما حاولنا ان نقوله ـ تطرح رؤي تقول بإمكانية التطور بتجاوز السلطة المركزية وهو ما أظن أنها المعركة الدائرة.
مما سبق، فإن السياق المجتمعي وما يحركه ويحكمه من نمط انتاج يتحكم إلي حد كبير في «دفع/منع»؛ عجلة التقدم. الأكثر أن المؤسسات والكيانات الثقافية تتشكل وتوظف وفق هذا السياق. وفي المحصلة، اختلاف «المسارات والإيقاعات»بين الدول. ويمكن التحقق من المقولة الأخيرة، بالرجوع إلي الدراسات المحدثة في مجال تطور المجتمعات مثل كتابات: بيري أندرسون في كتابه: أصول الدولة المطلقة، وبارينجتون مور في كتابه: الأصول الاجتماعية للدكتاتورية والديمقراطية. وفي مجال الاجتماع السياسي/الديني مثل كتابات: كازانوفا في كتابه أديان العالم. وفي مجال أدبيات التحول الديمقراطي مثل كتابات فيليب شميتر وشارلز باول،…،إلخ.حيث تتميز هذه الدراسات بثلاثة أمور وذلك كما يلي: أولا: الدراسة التتبعية لمسارات التطور للعديد من الدول. وثانيا: عمل المقارنات المتعددة المستويات بين هذه الدول ومن ثم اكتشاف الأسباب المتعلقة بتقدم وتخلف كل دولة علي حدة بعيدا عن التعميم والانطباعية أو الكلام الإنشائي أو العنصري أحيانا بوصف شعب من الشعوب بأنه «لا يثور» أو «خنوع»، أو القدري حيث القبول بالفقر أو اللامساواة باعتبارهما «قدرا» يجب القبول به وليس «حالة مجتمعية» نتجت عن عوامل موضوعية.ثالثا: أنها دراسات متداخلة المنهج ذات ومتعددة المقاربة وفق مناهج التحليل المتجددة.
وفي المحصلة، تتيح هذه المساحات المعرفية الثرية أن تساعدنا علي الإجابة بصورة أكثر عمقا علي سؤال سأله رواد النهضة مبكرا عن واقعنا…ونتابع…