ليسمح لى القارئ العزيز أن أضع وصفا لمقولة «نهاية الرأسمالية»، التى يطرحها ديفيد هارفى فى كتابه الأخير «17 تناقضا لنهاية الرأسمالية». هذا الوصف هو «الأزمة التاريخية الكبرى». ففى نص دقيق يسبق محتويات الكتاب البالغ الأهمية يحدد هارفى مقصده بمعنى «الأزمة»، خاصة مع كثرة استخدام هذه المفردة للدرجة التى جعلتنا نتعايش معها.
يدرك هارفى بداية أن الأزمة ــ تاريخيا ــ ضرورية لتجديد الرأسمالية. فالرأسمالية على مدى التاريخ كانت تستفيد من أزماتها وتستطيع من خلال »كهنتها وسحرتها« أن تجدد من نفسها ــ بحسب فؤاد مرسي. فأزمة الكساد الكبير التى عرفتها الرأسمالية فى الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1929 كانت مقدمة لتأسيس اقتصاد رأسمالى يراعى التأمين الاجتماعى بعض الشيء، ما عرف بالاقتصاد الكينزي، إلا أن دهاقنة الاقتصاد الأمريكى اليمينى المحافظ (وبخاصة الذين يتبعون مدرسة شيكاغو بقيادة ميلتون فريدمانـ وبالمناسبة هى التى خرج منها ليو شتراوس المرجعية الفكرية لليمين المحافظ الدينى الذى كان له دور لاحق فى التخديم على الليبرالية الجديدة)، قد أسسوا إلى «اقتصاد الحرب الدائمة»، كوسيلة ناجعة تنشط حركة الرأسمالية وتحميها من الركود.ولكن السؤال لمن يكون التنشيط والحماية تحديدا؟
تشير الأرقام إلى الأرباح التى جنتها الشركات الكبرى من الحرب حيث زادت أرباحها من ما يقارب 7 مليارات دولار فى سنة 1940 إلى ما يقارب 15 مليار دولار مع نهاية الحرب. واستطاعت هذه الأرباح أن تحل مشكلة السيطرة على الناس،الأمر الذى جعل تشارلز ويلسون رئيس شركة جنرال إلكتريك أن يكون سعيدا بالحرب لأنها أوقفت الاستمرار فى برامج الدعم الاجتماعي. بلغة اخرى استفادت منها ما اصفه دوما «بالقلة الثروية». ترتب على ما سبق عدة ترتيبات منها: الأول: تعظيم درجة الاحتكارية فى الاقتصاد القومي، والثاني: زيادة درجة تركز تمركز رأس المال، والثالث: الدمج بين قوة وسلطة رأس المال الاحتكارى مع قوة وسلطة جهاز الدولة وامتزاجهما فى كيان واحد يسيطر على كافة مناحى الحياة فى المجتمع، يهدف أساسا إلى تحقيق أمرين هما:
أولا: استقرار النظام الاجتماعي؛ ولكن الاستقرار بأى معنى؟ يعنى الاستقرار هنا ما يلي: أ) عدم جواز إجراء أى توزيع راديكالى للثروة أو القوة. ب) كما لا يجوز ـ للناس ـ تحدى سيطرة النخبة أو سيطرة الطبقة الرأسمالية الاحتكارية (شبكة الامتيازات المغلقة وهو التعبير الذى صغناه فى 2008)،
ثانيا: الاستمرار ولكن بنهج جديد يتسم بأمرين: «بالاحتكارية الشديدة وأن يكون ذلك من خلال قلة، لذا تمادت الرأسمالية فى التوسع من المركز إلى خارجه (بالحروب، وبالمضاربات…إلخ)، توسع/ إمبريالية دون مستعمرات. وفى هذا يقول هارفى» لقد شكلت هذه القوة المتزايدة «نذير طغيان»، وذلك: «لما تملكه من تأثير اختراقى عظيم الانتشار ولقدرتها على متابعة مصالحها الضيقة من خلال المبالغة فى التهديدات وافتعال الأزمات الخارجية لكى تبنى اقتصادا حربيا يجعلها أكثر قوة.ولكى تبقى فى قوتها الاقتصادية وجدت الصناعات الدفاعية حاجتها فى تنمية تجارة تصدير السلاح. ولعبت التجارة دورا أساسيا فى تراكم رأس المال الأمريكي، من جهة أخرى كانت سببا فى نشوء عسكرة مفرطة…».
فى هذا السياق، حل «الأخطبوط» محل الدولة. والأخطبوط هو تعبير نستعيره من أحد الأدباء الأمريكيين (فرانك بوريس ــ 1870 ــ 1902) الذين كانت له بصيرة وإطلالة رؤيوية على سلوك الشركات الأمريكية فألف رواية عنوانها: «الأخطبوط» تعكس مدى سطوة الشركات وتأثيرها على السلطة السياسية…لذا وصفها هذا الأديب «بالأخطبوط» لقدرته على الامتداد فى كل اتجاه بسبب تعدد أياديه، وأن رأسه تقابل لديه «مبدأ الاحتكار»…
كانت الكوارث الاقتصادية المتعاقبة (200 كارثة مالية) هى المحصلة النهائية للاقتصاد الأخطبوطى «الشركات الاحتكارية». كوارث يمكن رصدها فى الآتي: أولا: تغيير ميزان القوى بين المال والعمل، وهو ما يستدعى من منظور المواطنة إعادة النظر فى حقوق المواطن وفق مستجدات منظومة العمل. وثانيا: ما بات يعرف ــ فى الأدبيات المعاصرة ــ تكثيف الاستغلال. وثالثا: إضعاف الحركة النقابية بشتى الطرق حتى فى المجتمعات التى لها تاريخ عريق فى العمل النقابي. ورابعا: التراجع عن أى مكاسب اجتماعية عرفها المواطنون. وخامسا: الاستنزاف المطلق للموارد والثروات الطبيعية واعتبارها شأن خاص للقلة الثروية بالرغم من تأكيدنا فى تعريفنا للمواطنة الذى اجتهدنا فيه مبكرا على تضمين فكرة التقاسم العادل للثروة العامة للبلاد كأحد تجليات المواطنة (المواطنة والتغيير ـ 2006). وسادسا: التدمير دون حساب للبيئة. سابعا: تجمع عدة إشكاليات اقتصادية فى آن واحد مثل: الركود، والارتفاع المتنامى فى نسب البطالة، والفشل فى تحقيق معدلات نمو مرتفعة، وكلها أدت غلى تذمر متعدد الدرجات.
فى المحصلة، كان من شأن هذه الكوارث أن تتسبب فى إحداث أزمة مركبة متعددة الأبعاد والزوايا. أى ليست اقتصادية محض. أخذا فى الاعتبار تغير السياق كليا على شتى المستويات ومن ثم لن تصلح الإصلاحات الاقتصادية التجميلية النمطية فى التعامل مع المستجدات المجتمعية. وهنا تكمن أزمة الرأسمالية الراهنة. وهى أزمة كشفت عن 17 تناقضا فى بنيتها.