«التفاوت»، «الاختلال»، «اللامساواة»، تعبيرات تلاحق الإنسان أينما ذهب للدرجة التى يمكن أن نقول فيها إن الضمير الكونى أصبح لا يطيق هذا الغياب الحاد «للعدالة» بين البشر..
ففى الأروقة العلمية مهما كان الموضوع المطروح لابد وأن يذهب التحليل إلى مساحة تتداخل مع هذه المفردات.. وفى المجالين السياسى والمدنى تجد كل الفعاليات والتحركات تصب حول كيفية إقامة العدل وتقليل التفاوت وتضييق الفوارق وبلوغ المساواة كيفما أمكن…
ويدل هذا «الجنون الحميد»، والمتنامي، فى محاولة البحث عن «العدالة الغائبة» على تزايد الوعى بأنه لا يمكن للحياة البشرية أن تستمر حية دون معالجة هذه القضية الشائكة، خاصة أن «العدالة الغائبة» لم تعد وقفا على الدول الفقيرة أو الفاشلة أو المتخلفة ـ بغض النظر عن الوصف ـ وإنما امتدت للدول والمجتمعات المتقدمة والغنية والمتطورة تكنولوجيا وتنمويا.إلا أن ميزة هذه الدول والمجتمعات ـ أقصد الغنية ـ أنها حية وواعية بأنه لا يمكن التعايش مع قضية هكذا يمكن أن تكون سببا فى تدمير الكوكب الإنساني.لذا فتحت نقاشا موسعا وممتدا حول القضية التى صنفت نفسها رغما عن الجميع بالقضية الكونية رقم واحد.
فى هذا السياق، تعددت الاجتهادات من زوايا عدة،وامتدت النقاشات وتفاعلت بين «الأكاديمية» و«السياسة» وخرجت إلى الحوار المجتمعى بحق فى كل مكان من العالم المتقدم. ونشير هنا إلى أنه فى العامين الأخيرين قد صدر ما يقرب من 50 إصدارا معتبرا حول قضية «العدالة الغائبة» عن الإنسانية. بداية من كتاب بيكيتي: »رأس المال» الذى لفتنا النظر لأهميته نهاية عام 2013 للمرة الأولى فى مصر. مرورا بأعمال أمارتيا صن:«فكرة العدالة»، وأتكينسون: »اللامساواة». إلى جوزيف ستيجليتز (الحاصل على نوبل): «ثمن اللامساواة» و»الانقسام الكبير»، وديفيد هارفي: »الرأسمالية: 17 عشرة تناقضا يدفعون بنهاية الرأسمالية»… إلخ.. وكلها أعمال فكرية متعددة المقاربات: الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، تتسم بالتحليل المركب، يمكن تصنيفها بأنها ذات طابع نقدى وراديكالى تقارب كتب الرواد من حيث أنها تمثل: «فتحا معرفيا يؤسس لمرحلة تاريخية جديدة للإنسانية»، ما يعنى «انقطاعا حاسما وفوريا للأفكار والنظم والسياسات والإجراءات والتشريعات والممارسات التى تؤدى لتغييب العدالة واللامساواة والتفاوت»…
فلقد مثلت الأزمة المالية الكونية فى 2008، نقطة تحول كبري. حيث صارت أشبه «بلحظة حق» لإطلاق مراجعات حقيقية وكبرى لفهم الأسباب التى أدت إلى حالة «العدالة الغائبة». وقد كانت هذه المراجعات من التأثير حتى إن المؤسسات المالية المعروفة بتسويغ سياسات الليبرالية الجديدة باتت واعية «بالتفاوتات الصارخة» ومدى ما ستجلبه من آثار سيئة على الدول والمجتمعات. ومن ثم تراجعت بعض الشيء عن سياساتها الإصلاحية التى تُبقى «الواقع المختل»، قائما دون مساس مقابل انتعاش مالى لا يحقق أى تنمية حقيقية، إلا أن التفاوت لم يزل حاضرا وبقوة، حيث ينتشر ويتمدد ويتوغل فى الأبنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية المتنوعة.
وعليه، نتج واقع مجتمعى فى حالة انقسام حاد بين قلة تحظى بالكثير فى مقابل أغلبية تفتقد للكثير من: «الفرص المتكافئة ذات القيمة فى شتى المجالات» التى تضمن «شراكة فاعلة على كل المستويات: الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية» و «تمكين لقدرات المواطنين على الابداع والتعبير عن الذات ومقاومة أبنية الظلم التى تمنع تحقق العدل وتغيبه عمدا».
فلقد أجمعت كثير من الأدبيات التى باتت محل اهتمام ونقاش الكثير من الدوائر السياسية والعلمية والثقافية على أن سياسات الرأسمالية على مدى المائتى سنة الأخيرة، وبالأخص مرحلة تطبيق سياسات النيوليبرالية التى انطلقت فى 1979 ـ كانت قرينة للعدالة الغائبة. وأن التفاوت كان هو الناتج الأساسى لهذه السياسات. والأهم هو أن هذه الأدبيات قد رصدت تناميا مستمرا لهذا التفاوت: فى التشغيل، وتوزيع الثروة، والاستفادة من الخدمات والمرافق، وفى العلاج والرعاية الصحية، والتعليم، والشراكة فى العملية السياسية دون اقصاء أو استبعاد، و الإحساس بالأمن،والقدرة المتساوية على التنظيم والدفاع عن الحقوق، والتنمية المتكافئة،…،إلخ.
وخلاصة النقاشات الراهنة، أن استمرار غياب العدالة ومن ثم التفاوتات سوف يضع العالم على حافة الخطر، وتنذرنا أدبيات «العدالة الغائبة» بأن الفوضى ستكون عارمة إذا ما استمرت هذه السياسات وأصر عليها أولو الأمر. لأن النتيجة الحتمية ستكون: «خلق الأسى والعسر للمواطنين ودفع قطاعات منهم ـ ليست قليلة ـ إلى المخدرات، والجريمة، وتشغيل الأطفال والدعارة، ولن تستطيع السلطات المسئولة إغفال الصلة بين البؤس وعدم الأمان من جهة الصراعات الاجتماعية وتزايد الحركات المتطرفة من جهة أخري، بالإضافة إلى تدهور الصحة، وعدم إمكانية التعليم.. إلخ.. » أو الحياة بكرامة…
وهنا يذكرنى صديقى بما قاله العميد طه حسين فى البلاغ مطلع الأربعينيات:
«… المساواة لا تأتى إلا بتحقق العدل الاجتماعى بأدق ما يمكن أن يتحقق به العدل الاجتماعي، فلا يجوع إنسان ليشبع إنسان آخر، أو ليشبع إنسان ليجوع إنسان آخر».. مساواة تجعل الناس سواءأمام الثمرات التى قُدر للناس أن يعشوا عليها»..