جاء صديقى محاولا تطوير النقاشات المطولة التى شاركنى فيها مع الكثيرين الذين طالعوا مقال الأسبوع الماضي: “التجدد المجتمعى مدخلنا لتجديد الرؤية الدينية”؛ وذلك من خلال تذكيرى بخبرتين تاريخيتين، تجددت فيها الرؤية الدينية بفعل التجدد المجتمعى فى إطار عملية تاريخية مركبة، هما: الخبرة الأوروبية وخبرة مصر الحديثة…
فالإجابة التى توصلنا إليها فى مقالنا السابق ومفادها أن:”التجدد المجتمعى وتجديد الرؤية الدينية”، هما دوما فى علاقة شرطية وجدلية. فلا يمكن أن يتم التجديد الدينى دون أن يكون هناك تجدد مجتمعى شامل يتمثل فى تقدم اقتصادى له طبيعة انتاجية فى إطار نموذج تنموى حضارى شامل. لذا وصفنا هذه العلاقة “بالعملية التاريخية” النضالية حيث تتم بشراكة بقوى المجتمع الحية الساعية للتقدم؛ لأنها أعقد من أن يتم تبسيطها فى سؤال مباشر أيهما يسبق الآخر، أو اختزال عملية التجديد الدينى فى إطار لقاءات واحتفاليات منبتة الصلة بالسياق الاجتماعى وتطوره ومطالبه.”…إجابة ليست نظرية. وإنما هى إجابة عملية على سؤال سبق أن طرحه كثيرون فى معرض بحثهم عن الظروف التى أدت إلى الاصلاح الدينى فى أوروبا. ملخصه: «أيهما صنع الآخر، هل الاصلاح الدينى هو الذى أحدث التحولات المجتمعية أم أن التحولات المجتمعية ببعديها: الاقتصادى والسياسى هى التى أطلقت الاصلاح الديني؟»…أى أن السؤال قديم ـ جديد. ويمكن الإجابة عليه من واقع الخبرة الأوروبية والخبرة التاريخية المصرية منذ تأسيس الدولة الحديثة. وتتلخص الإجابة من واقع الخبرتين فى الآتي:
فلو أخذنا ـ أولا ـ الحالة الأوروبية؛ سوف نجد أن الاصلاح الدينى وتجديد مضمون رؤيته للعالم والانسان والمجتمع قد جاء استجابة للطبقات البرجوازية الصاعدة الحاملة لقيم تتجاوز المرحلة الإقطاعية واحتكار المؤسسة الدينية لمقدرات الانسان وثقافة العصر الوسيط السكونية والمغرقة فى الخرافات والأساطير. حيث بدأت تمارس اقتصادا مدنيا وتطلق صناعات تقوم على الاكتشاف والبحث عن جديد من خلال المعمل ثم المصنع لاحقا بخط انتاجه الذى يقوم على منطق الابتكار، ما استلزم صحوة عقلية ومعرفية كان لابد من أن يقابلها تجديدا دينيا شاملا فى إطار العملية التاريخية ذاتها…
وإذا ما انتقلنا ـ ثانيا ـ إلى مصر الحديثة؛ فإنا سنجد أن التجدد الدينى (تجدد الرؤية الدينية) كان مرتبطا بشكل وثيق بعملية تكون الدولة الوطنية الحديثة وفى القلب منها مؤسسات الحداثة التى قامت على نقلة مجتمعية قوامها تملك المصريون للأرض والتواصل مع جديد العصر. لذا تأثر التجدد الدينى بدورات الصعود والهبوط التى تعرضت لها الدولة الحديثة فى مصر. فرأينا كيف تتجدد الرؤية الدينية: فكرا وخطابا وممارسة، وفق دورات الصعود والهبوط التى تعرضت لها الدولة الحديثة منذ محمد على وحتى الآن…والتى نرصدها فى خمس دورات تاريخية كما يلي:
الدورةالأولى:التحديثية؛ من محمد على إلى مطلع القرن العشرين، حيث اتسمت هذه المرحلة بالاستنفار والإحياء. حيث تبين مدى حاجة المؤسسات الدينية إلى مواكبة مشروع الدولة الحديثة. وعليه سعت إلى إحياء ذاتى تعليمي، وإلى إعادة البناء المؤسسى والمعرفى وفق مقتضيات الحداثة.
وثانى هذه الدورات هي: الليبرالية/ الراديكالية من 1919 إلى 1969،حيث عُن بالفكر الدينى بقضايا الحداثة والتحديث. وذلك بالمقاربة العقلية للإيمان وبالاشتباك الجريء مع قضايا الواقع الاجتماعي. فتم انتاج مقاربات عقلية للإيمان والتطرق لقضايا مثل قضايا التطور والعلوم التطبيقية الجديدة وذلك فى المرحلة الليبرالية (الوفدية). كما تم مقاربة قضايا الفقر والمساواة بين الطبقات والتنمية فى المرحلة الراديكالية (الناصرية).
أما الدورة الثالثة فيمكن أن نطلق عليها: «المحافظة» من 1969إلى 1979،حيث خاصم الدين الحداثة وانكفأ على نفسه.اعتبرت الرؤية الدينية السائدة،الحداثة عدوها الأول لأنها تتلاعب بسنن الله…وتم حصار حركات التجديد الدينى مثل لاهوت التحرير لصالح قوى اليمين الدينى الجديد فى كل مكان. وزاده محافظة هو التوتر الدينى الذى شهدته مصر.
والدورة الرابعة فى مكان وصفها:«بالشكلية»، حيث ساد التراوح الرؤية الدينية. فرأينا التردد فى مواجهة التحولات التى جرت بفعل اقتصاد السوق والتداعيات التى حدثت ليس اقتصاديا فقط وإنما ثقافيا. فلقد توارى الإنسان فى كل من اللاهوت والفقه، لحساب إنسان السوق. واقتصر جل الفكر الدينى على كيفية شكل التدين دون الاجتهاد بالاشتباك مع جديد العصر، وتسويق أن الفقر تتم معالجته بالأعمال الخيرية.. وتراوح الفكر الدينى بين استعادة كتب التراث دون إجراء معالجات تجديدية، لذا غابت المقاربات العقلية للقضايا الإيمانية كما توارت المقاربات المجتمعية المعنية بالمساواة وفهم ما يطرأ على البنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
وها نحن نعيش دورة خامسة «صراعية» الطابع منذ حراك 25 يناير؛ بين قديم يشدنا إلى الخلف فى محاولة لإعادة انتاج المرحلة الشكلية وجديد يحاول أن يستجيب لمطالب الحراك فى محاولة لتأسيس جديد لرؤية دينية لما بعد النيوليبرالية التى فشلت فى الاستجابة للمواطنين وتم الحراك ضدها. حيث طرحت إشكاليات جديدة وجدول أعمال جديد يتطلب رؤية دينية جديدة…فما هى هذه الإشكاليات وما هو جدول الأعمال الجديد؟…ونتابع…