تأسست الأحزاب فى مصر عام 1907. أى أن مصر عرفت الحياة الحزبية منذ ما يقرب من 110 أعوام. إلا أن الواقع الراهن للأحزاب المصرية يشى بأزمة مركبة متعددة العناصر. أزمة تثير القلق على مستقبل العملية السياسية برمتها. وتطرح العديد من الأسئلة المشروعة تصب كلها فى كيفية التضافر من أجل تيسير التحول الديمقراطي.
قبل الدخول إلى صلب الموضوع حول الحالة الحزبية الراهنة، نشير إلى أن الأحزاب المصرية ـ تاريخيا ـ قد مرت بأربع محطات رئيسية، نوجزها كما يلي: أولا: أحزاب إطلاق الحركة الوطنية المصرية، من 1907 إلى 1914، والتى عرفت فيها مصر تأسيس حزبى الأمة والوطنى (الأول). ثانيا: أحزاب الاستقلال الوطني/ الطبقة الوسطى المدينية البازغة، من 1919 إلى 1953، والتى تأسس فيها حزب الوفد التاريخى والأحرار الدستوريين وغيرهما. وقد نمت فى سياق هذه المرحلة كل الحركات القومية والأيديولوجية السياسية والدينية التى عرفتها مصر تاريخيا. ثالثا: أحزاب الشمولية النسبية، من 1976 إلى 2011، والتى بدأت بتأسيس المنابر السياسية الثلاثة فى سنة 1975: اليمين والوسط واليسار على يد السادات ثم تحولت إلى أحزاب سياسية فى السنة التالية. وبقيت الحالة الحزبية على حالها، مع إضافة احزاب جديدة تأسست فى الغالب عن طريق أحكام قضائية. رابعا: الأحزاب التى أطلقها حراك 25 يناير. ونشير إلى أن الفترة ما بين 1953 إلى 1975 قد ألغيت فيها الحياة الحزبية واحتل صدارة المشهد السياسى تنظيم واحد هو على التوالي: هيئة التحرير،فالاتحاد القومى فالاتحاد الاشتراكي، وكان تركيزه هو التنمية.
فى ضوء ما سبق، كان من المفترض أنه بعد هذه الفترة الزمنية الممتدة، من جهة. وبعد إطلاق حرية تكوين الأحزاب ـ نسبيا ـ بعد حراك 25 يناير، وبالمطلق بحسب الدستور الراهن بعد تمرد 30 يونيو، (راجع المادة 74) من جهة أخري، أن تنتعش الحياة الحزبية وتنتشر قاعديا وتزداد عضويتها وتتمايز رؤاها وفق مصالح من ينتسبون إليها. وهو ما حدث بالفعل لفترة قصيرة. تحديدا فى المرحلة الأولى من الانتخابات البرلمانية التى أجريت فى نوفمبر 2011. حيث يمكن أن نقول إجمالا كيف: «عاد الناس/ المواطنون إلى الحياة السياسية والمدنية والذى يعد من أهم انجازات 25 يناير أو الموجة الأولى من الحراك. وعودة المواطنين إلى المعادلة السياسية هو المقابل الموضوعى لأن يكون فى تاريخ الشعوب حاكم سابق». وعليه ولدت شرعية جديدة هى شرعية «الميدان» وكانت هى الطريق إلى «شرعية البرلمان»… وعليه زادت الكتلة التصويتية إلى الضعف كذلك التصويت المدينى بشكل غير مسبوق…إلا ان هذا الزخم الحزبى لم يستمر ولعل «تعثر» صياغة التحالفات والتكتلات والجبهات الانتخابية المختلفة، يعكس مدى الأزمة المركبة التى لحقت بالأحزاب المصرية على اختلاف تنوعاتها…فما هى أهم ملامح هذه الأزمة، التى يعود بعضها للأحزاب نفسها والبعض الآخر للسلطة؟
أولها: عدم إدراك طبيعة التغير التى طرأت على البيئة السياسية؛ أى بين بيئة سياسية يحكمها حزب السلطة ومن حوله تتحرك أحزاب المعارضة بين قبول عقد صفقات أو البقاء بعيدا. وبين بيئة سياسية «متحررة من الحزب الحاكم ومن البيروقراطية الإدارية والأمنية للمرة الأولى منذ عقود». ما يعنى تغير عناصر المعادلة السياسية وشروطها وأساليب وأدوات ممارساتها.
ثانيها: عدم الاجتهاد فى ضم الكتلة السياسية الجديدة الصاعدة؛ فلقد كشفت الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة فى 2012 إلى أن هناك كتلة تصويتية جمعت بين الثوريين والإصلاحيين بالرغم من التناقض الظاهرى . تعبر من الناحية الاقتصادية عن الطبقة الوسطى بشرائحها، وجيليا تعبر عن شرائح واسعة من الشباب. وحضريا يحسبون من أبناء المدن والمناطق الحضرية. كتلة كانت بعيدة عن «وكلاء الأصوات» وعن الجماعات الأولية: الدينية، والقبلية، والعشائرية،…،إلخ. وهى نفس الكتلة التى قدمت أموالها المحدودة فى ساعات من أجل مشروع قناة السويس بعيدة عن الأموال المهاجرة والوافدة…ولكن ظلت مهملة وغير معترف بها رغم من أنها هى القاعدة الاجتماعية لمصر الجديدة فيما أظن…بيد أن الأحزاب رأت أنه من الأفضل والأسهل الرجوع إلى الجماعات الأولية لتكون الظهير السياسى المعتمد…
ثالثها: إصرار السلطة على إصدار قانون انتخاب لا يدعم التحول الديمقراطي؛ فلقد نبهنا مبكرا أن أى حركية مجتمعية مهما كانت محدودة لابد أن تستجيب لها السلطة. فالإصرار على صيغة ما أطلقت عليه «السلطة الضيقة والمجتمع المفتوح» سوف تعرقل التحول الديمقراطى وتجعله ينتكس. لذا فمن غير المعقول أن نستعيد قانونا تم نقده فى 1984. وبدلا من أن يدعم الحالة الحزبية وجدناه يدعم حضور الجماعات الأولية فى المشهد السياسى من جانب، وثنائية الثروة والدين مرة أخرى التى هيمنت على المشهد الانتخابى من 1984 إلى 2010… بل وأثرت على البنى الحزبية الجديدة مابعد 25 يناير…كيف؟… نتابع…