قبل حراك 25 يناير 2011، تشكلت عدة لجان فى وقت واحد، بعد ضغط هائل استمر لأكثر من عقد، لتقييم مناهج التاريخ. وأذكر أن واحدة من هذه اللجان قد أرسلت لى تقريرها الختامى لمراجعته وإبداء الرأى خاصة فيما يتعلق بقيم المواطنة فى هذه المناهج.
عندما قرأت التقرير، طلبت أن ألقى نظرة على المناهج، وكانت الطامة الكبرى، فلقد اكتشفنا بؤس المعالجة التاريخية والتى أوجزناها فى ثلاثة أسباب فى مقالنا السابق وذلك كما يلي: الأول:التعاطى مع الوقائع التاريخية باعتبارها «قدرا» لا نتيجة لظروف موضوعية عدة، الثانى: التعامل مع الحقب التاريخية كونها أزمنة مغلقة على نفسها لا علاقة لها ببعض، الثالث: أن التاريخ يركز على تاريخ الحكام دون الالتفات إلى المحكومين ونضالاتهم. وتصورت أنه بعد كل الأحداث التى مرت بمصر من احتجاجات إلى حراك وتمرد، أن منهجية التعامل مع التاريخ سوف تتغير، وأن رؤية جديدة«طازجة» لابد وأن تمتد لتاريخنا، إلا أن المناهج لاتزال هى هي، فيما عدا بعض التغييرات التى طالت الوقت الحالي. فبالعودة إلى منهج الصف الخامس،على سبيل المثال،نجده يبدأبدراسة العصر البطلمى فى مصر. كما هو متبع فى وضع المناهج الحديثة يتضمن الدرس مجموعة من «البوكسات»، حيث يحمل كل واحد منها عنوان يتم تقصيه من عينة: ماذا نتعلم فى هذا الدرس، القضايا المتضمنة، أهداف الدرس..الخ.
وفى هذا السياق،أدعوك عزيزى القارئ إلى الانتباه الشديد. هل تعلم أن من أهداف هذا الدرس(عدد الأهداف المذكورة خمسة أهداف) أن يستنتج التلميذ، أرجو الانتباه، مرة أخري، «مدى استمتاع المصريين بحقوق المواطنة فى عصر البطالمة»! (ص44)، وفهم معنى المواطنة!. قد يقول قائل وماذا فى ذلك؟
هنا مربط الفرس، ويصبح السؤال، أو بالأحرى مجموعة الأسئلة التى تفرض نفسها هي: هل يمكن أن يستمتع مواطن «بالمواطنة» فى ظل حكم وافد /أجنبي،«بالبلدى مستعمر». هل يمكن أن تتحقق المواطنة فى وقت كان الحاكم الوافد ينقل ثروات مصر إلى خارجها. هل يمكن أن ندرك معنى المواطنة ما لم يتم التركيز على«ثورات المصريين» ضد الحاكم الوافد، وإلقاء الضوء على جانب منها من حيث أسبابها، ونتائجها، بدلا من الحديث عما يمكن أن نطلق عليه عمارة الحكام، وقبل كل ذلك ماذا تعنى المواطنة فى ذهن واضعى مناهج التاريخ؟
الخلاصة أننى قرأت الدرس عدة مرات فلم أجد الدرس يجيب عن الهدفين المذكورين، بقدر ما أجاب عن مزايا الحكام البطالمة والذى انتهى بالنزاع بين أفراد الأسرة الحاكمة وتدهور الزراعة والصناعة والتجارة ..الخ. ذلك لأن الوسيلة الوحيدة التى كانت تجيب لنا عن معنى المواطنة هو دراسة ثورات المصريين فى مواجهة البطالمة، أخذا فى الاعتبار أن المواطنة فى نظرنا وبعد قراءات عدة ودراسات مكثفة هى: «حركة المواطنين على أرض الواقع من أجل اكتساب المساواة واقتسام الثروة العامة للبلاد..»(راجع كتابنا المواطنة والتغيير ـ 2006).
وينتقل بنا المنهج إلى العصر الروماني، ونجد أنفسنا أمام «معضلة»حقيقية. فيتحدث المنهج عن «أغسطس قيصر» الذى أصبح امبراطورا على مصر وكيف ـ أرجو الانتباه مرة أخرى «قضى على ثورات المصريين فى بداية حكمه»، ألا تتفق معى عزيزى القارئ أن من يقرأ هذه الفقرة سيكون انطباعه وكأن كاتب التاريخ يعمل على تسجيل انتصار الحاكم الوافد على المصريين من خلال القضاء على ثوراتهم. وبالطبع لو كان من يكتب التاريخ قد قرأ: مصطفى العبادي،مصر من الاسكندر الأكبر حتى الفتح العربي، أو آيدرس بل، مصر من الاسكندر الأكبر حتى الفتح العربى، وكتابات سيدة إسماعيل الكاشف، أو طاهر عبد الحكيم: تاريخ الشخصية الوطنية..الخ.. لأدرك كيف أنه منذ حضور أغسطس قيصر إلى مصر«لم يدع هو وجنوده وسيلة إلا ابتكروها لاستغلال موارد البلاد إلى أقصى حد ممكن»(راجع كتابنا الحماية والعقاب: الغرب والمسألة الدينية فى الشرق الأوسط). .ولا يستنكف المنهج أن يقول إن الرومان قد «احترموا عقائد المصريين..». ذلك لأن الدين قد وظف سياسيا لأقصى مدى من أجل امتصاص ثروات المصريين…لذا ومع نهاية القرن الأول الميلادى «وجدت البلاد تتردى فى هاوية الحروب الأهلية». وهنا لعبت المسيحية دورا وطنيا فى التوحد بين الأرض والشعب فى مواجهة الرومان.
والمفارقة الكبرى هنا تكمن فى تمجيد دقلديانوس، الذى يذكر المنهج أنه «نجح فى القضاء على ثورة المصريين فى الإسكندرية ثم أحسن معاملة أهلها فبنوا له عمودا كبيرا عرف باسم عمود السوارى» (ص51).
ويتكرر السؤال هل عندما ينجح الحاكم الوافد المستعمر من القضاء على ثورة المصريين هل يكون ذلك محل فخر لهذا الحاكم، أم دعوة لتمجيد أهلنا على مقاومتهم للحاكم الظالم، وخاصة إذا ما كان دقلديانوس؟.. ونواصل.