جاءنى صديقى فرحا بالصدى الذى أحدثه مقال الأسبوع الماضي: «هو قبل محمد على كان فيه؟» وقال لي: ماذا فى جعبتك حول هذا الموضوع، قلت له:» بداية لابد من الاتفاق على أن التاريخ ضرورة لكل مواطن، فهو ليس قصصا وحواديت تحدث من فراغ.
الأول: أننا نتعاطى مع الواقعة التاريخية باعتبارها «قدرا»، فالواقعة تحدث دون أدنى إشارة عن الظروف التى أدت لحدوث الواقعة، ومن ثم علينا أن نقبلها كما هى وقطعا علينا أن نقبل النتائج المترتبة عليها، خاصة إذا لم نكن نعرف ما أدى إليها فعندما يشير منهج السنة الرابعة إلى أن بناء الأهرام يدل على رقى حضارة المصريين فى مجال الهندسة والعلوم والفنون والعمارة، دون أن يفسر بعض الشيء لهذه المعلومة، ولو بصورة تجسد العبارة فنحن إذن أمام إشكالية معرفية تتعلق بإدراكنا بـ «أهمية بناء الهرم»، خاصة أن الأسئلة المنطقية التى سيتم طرحها: كيف تم الوصول إلى الهرم كشكل هندسي؟ وكيف تم تحويل الفكرة النظرية إلى واقع؟ ولماذا؟ وما أوجه الاستفادة منه فى حينها؟ وهكذا.
الثاني: التعامل مع الحقب التاريخية باعتبارها «أزمنة مغلقة على نفسها» لا علاقة لها ببعض؛ فعندما نتحدث عن حقب ومراحل الدولة الفرعونية، مثلا، لا نجد بصورة محددة تواريخ بداية كل حقبة ونهايتها، وبالتالى ما هى الفلسفة التى تحدد أن نقول على هذه الفترة الدولة القديمة، وعلى فترة أخرى الدولة الوسطي، وثالثة الدولة الحديثة. وهكذا، يجد الدارس نفسه ينتقل إلى حكم الإسكندر بسبب ضعف الدولة الحديثة التى لا نعرف لماذا ضعفت؟ وما دلالة أن يحضر الإسكندر إلى مصر؟ ويتم هندسة التاريخ باعتباره فصولا متعاقبة مثل المسرحية الدرامية، الاختلاف أن فصول المسرحية بحسب قواعد الكتابة الدرامية لابد لها أن تتواصل فيما بينها، بينما فصول التاريخ المصرى لا علاقة بينها وبين بعض.
وهى الملاحظة التى لفت النظر إليها مبكرا، المفكر الموسوعى الراحل الدكتور إسماعيل صبرى عبدالله فى كتابه: «إطلالة مصرية على تاريخنا الحضاري»؛ حيث نبه بألمعية شديدة إلى ما يلي:» من النظر لحلقات التاريخ وكأنها منبتة الصلة عن بعضها البعض، كذلك انتقد التقسيم الكلاسيكى لتاريخ مصر(مصر القديمة، مصر اليونانية /الرومانية، مصر الإسلامية)، الذى يبدو وكأن كل مرحلة منه منفصلة جذريا عن المرحلة التى سبقتها، وعن التى لحقتها ويعد اسماعيل صبرى من الذين دعوا إلى تأكيد أهمية «اعتماد اسم العصر القبطى فى دراساتنا التاريخية» لأسباب كثيرة، خاصة أن التقسيم الشائع هو من نتاج التقسيم الغربي.
وعن ذلك يقول: لم تكن العصور الثلاثة فصولا فى دراما شعب مصر التاريخية، فالستار الذى يسدل فى نهاية كل عصر لا يرتفع من جديد على أشخاص الدراما الأساسيين بعد أن اختفى منهم البعض وانضاف أشخاص جدد وتغير الديكور بل أنه ينسدل إلى الأبد، وكأن مصر قد أخليت تماما من أهلها ليقطنها فى كل مرة شعب جديد..!». وهكذا نصبح أمام أكثر من مصر، وما ينتج عن ذلك من كتابة تواريخ مختلفة ووجود أكثر من ذاكرة للمصريين، وهو « أمر لا يسوغ»، وهذا ما يجعل الحوار الجارى حول التاريخ الآن سجالى الطابع.
الثالث: أن تعليم التاريخ يركز على تاريخ «الحكام»، لا«المحكومين»؛ أى تاريخ الملوك والأسر الحاكمة لذا لا نجد أى ذكر تقريبا، وعلى الأخص بالدولة الحديثة، للمواطنين المصريين ونضالاتهم فى مواجهة الحكام الوافدين. هكذا وكأن الحكام يحكمون«فضاء» مجتمعيا لا يوجد فيه «ناس»، أو يوجد فيه ناس ولكنهم ينزعون إلى السكون، لا يتحركون قط فى مواجهة الوافدين، وتتغير مواقفهم طبقا لقرارات الحكام وانحيازاتهم. بالطبع لا بأس أن يشار إلى سوء الحكم الإمبراطوري، مما أدى إلى انهياره، ولكن ليس بسبب نضالات المصريين على مدى قرون. وهنا مرة أخرى لا نجد أى أطر زمنية تحدد معالم كل حقبة أو فترة تاريخية. وأذكر فى هذا المقام البوستر الذى أصدره النادى الثقافى العربى (بيروت)، حيث رسم خريطة دول المنطقة العربية منذ القديم بشكل زمني، مستخدما الألوان والأرقام..الخ، كى يتخيل المرء المسار التاريخى لهذه الدول.
ما سبق إطلالة سريعة على بعض من مناهج التاريخ الراهنة، والتى تحتاج إلى مراجعة حتى لا يصير تاريخنا غريبا عنا.