فى 24 مارس الحالى، تحل الذكرى التسعين لميلاد «وليم سليمان قلادة» (1924 – 1999). أحد أهم بناة المواطنة فى مصر على المستويين الفكرى والعملي. الموصوف بالإجماع بأنه «مدرسة حب الوطن».
هكذا وصفه أنور عبد الملك وجمال الغيطانى وطارق البشرى ونيافة الأنبا موسى ورفعت السعيد ومحفوظ عبد الرحمن ونبيل عبد الفتاح وجورج اسحق ونبيل مرقس وآخرون.
وليم سليمان قلادة، المفكر والقانونى والمؤرخ واللاهوتي، كان عينة نادرة من البشر. كان زاهدا ومحبا للجميع بلا حدود. كان دائم العطاء. ينطبق عليه وصف أسامة أنور عكاشة لأسرة السماحية فى مسلسل ليالى الحلمية بأنهم: «سلسال اللى بيدوا ولا ياخدوش». كان عمنا وليم ـ بحسب الغيطانى من هذه العينة. كانت فرحة عمره عندما يمسك بفكرة جديدة ويحاول أن يعمقها تاريخيا وفكريا، ولا يمكن أن يدرى أحد مدى سعادته عندما يتحصل على كتاب جديد يحمل أفكارا معتبرة تعينه فى أبحاثه ودراساته التى صبت، على تنوعها، فى المسألة الوطنية المصرية بأبعادها ومستوياتها المتعددة.
وللاقتراب من شخصية الراحل العلامة الكبير نستعيد الكلمات، التى أظنها مفتاحية فى معرفة الرجل، التى أهدى بها أول كتبه «الكنيسة المصرية تواجه الاستعمار والصهيونية» (1968). كان الإهداء موجها إلى والده.
كان الأب ابنا لثورة 1919 كما كان ابنا للكنيسة المصرية. وعاش الابن بهذه الروحية من عمل يديه فلم يمتلك شيئا حتى السيارة. عمل بالقضاء وشغل منصب وكيل مجلس الدولة. وانشغل بالفكر والبحث والكتابة فكانت أعماله تأسيسية فى مجالات: تاريخ مصر، وتاريخ العلاقات الإسلامية المسيحية، والحوار الدينى ، والقانون المدنى والكنسي، والدراسات الكنسية.
كان كتابه المذكور نقلة نوعية فى الكتابات التى تتناول الأقباط وكنيستهم، وكان الكتاب فى الأصل دراسة نشرت بمجلة الطليعة فى ديسمبر 1966 بعنوان «تيارات الفكر المسيحي»، لقد كانت الدراسات التى تتناول الكنيسة أو الأقباط تتناولهما بمعزل عن السياق التاريخى المصرى العام. ولكنه استطاع أن يرصد حركة الأقباط والكنيسة فى إطار الحركة الوطنية المصرية. وبحسب أستاذنا أبو سيف يوسف أحد القيادات اليسارية التاريخية، أن الدراسة قد فاجأت اليسار وجعلتهم ينتبهون لهذا الملف.
ويعد الدكتور وليم سليمان قلادة من عشاق الطهطاوى وأحد تلامذته النجباء، وأظن اننى يمكن أن اقول أن قلادة قد عمل على تطوير وتجديد فكر الطهطاوى وأنه التلميذ النجيب لرائد الفكر فى دولة محمد على الحديثة. من هنا كان اهتمام وليم سليمان قلادة بتتبع الأفكار التى طرحها الطهطاوى حول الوطن والوطنية على أرض الواقع من خلال حركة المواطنين أى «المواطنة» فى حالة الممارسة من قبل الناس ونضالهم وهى الفكرة الأساسية عند قلادة بل أهمها على الإطلاق، من أجل«اختراق حاجز السلطة والمشاركة فيها»، وهذا هو جوهر ما أطلق عليه مبكرا وبشكل متفرد ما تتبعناه لاحقا: «مبدأ المواطنة» (راجع كتابه الحوار بين الأديان ـ 1979).
اهتم وليم سليمان قلادة بالحوار، قبل عقود من انطلاق موجة الحوارات التى عرفت بحوار الثقافات وحوار الحضارات. ووضع أربع قواعد للحوار تتعلق بكل من:الآخر والشخص والمطلق والممارسة. كما وضع من خلال كتابه المسيحية والإسلام فى مصر (1989)محاولته التأصيلية الأولى فيما يتعلق بالآتي: مقومات الجماعة المصرية من حيث:الجغرافيا، والبشر، والمشروع الوطني، وطبيعة الدولة المصرية، والاستمرارية الحضارية المصرية، والتعددية الدينية، ومسار التاريخ المصري. والصراع بين ما أسماه فقهى الحكام والمحكومين لانتزاع فقه المواطنة التى تتيح المشاركة فى الحكم للجميع بدون تمييز.
وقد اعتبر هذا الكتاب مجرد مفتتح لدراسة أعمق وهى التى لم يتمكن من أن ينهيها ولكن تلاميذه جمعوا ما خطه فى هذا المقام فى كتابه «المواطنة المصرية» أحد أهم الكتب التى صدرت فى هذا المقام ـ ولأهميته سوف نتحدث عنه بالتفصيل لاحقا. ومن الأهمية الإشارة لدأب قلادة على البحث وكان وجدان وسلوك القاضى يحكمه فى ذلك حيث لا يمكن ان يخرج عنه رأى أو يصدر عنه حكم أو اجتهاد ما لم يكن متأكدا منه قدر الامكان.
ونشير هنا إلى أنه انكب على تحقيق ومراجعة نص تراثى قبطى يعرف باسم «الدسقولية أو تعاليم الآباء الرسل» ،( أحد أهم النصوص القانونية الكنسية القبطية)،وينكب لمدة عشرين عاما(1959 ـ 1979) على تحقيق النص وكتابة الهوامش فى 500 صفحة بالإضافة إلى مقدمة من 300 صفحة رفيعة المستوى بها مزيج من الفكر السياسى واللاهوت والفلسفة والقانون.. رحم الله وليم سليمان قلادة أحد بناة المواطنة العظماء. وأدعو إلى إعادة طبع كتبه وتنظيم احتفالية جديرة به، وأن يحمل الشارع الذى عاش فيه أغلب حياته فى مصر الجديدة اسمه.