من فضائل زمن التحول، إعادة النظر فى الكثير من القضايا والعلاقات للفهم والاستلهام والفرز والنقد وإدراك الدروس المستفادة وفتح حوار جاد وحر حولها من أجل إنجاز عملية التحول بما يضمن تجديد مجتمعاتنا وتقدمها
من هذه القضايا؛ قضية العلاقة بين «المثقف والحاكم»…أو بتعبير المؤرخ والمفكر والأديب المعتبر والصديق الكبير الدكتور خالد زيادة فى كتابه «الكاتب والسلطان:من الفقيه إلى المثقف»…فعلى الرغم من الكتاب قد طبع لأول مرة فى مطلع التسعينيات إلى أن طبعته الجديدة تأتى فى وقتها تماما حيث تفتح آفاقا معرفية حول هذه القضية المزمنة التى ظلت حاضرة بقوة فى تاريخنا الوطنى قبل الدولة الحديثة، وزادت تعقيدا بعدها، وخاصة مع «الحراك»الذى انطلق فى واقعنا ولم يستقر بعد، ومعه أعيد الحديث عن دور/وموقفه المثقف في/من عملية التنوير من جهة، وطبيعة علاقته«بالجماهير» أو المواطنين من جهة ثانية، وما سيترتب على ما سبق من تأسيس جديد/ قديم فى علاقته «بالأمير» أو الحاكم.
ويوفر الكتاب مادة تاريخية يعالجها ـ كما هى عادته ـ بسلاسة وعمق فى آن واحد، حول العلاقة بين الكاتب والسلطان منذ القرن السادس عشر حتى مطلع القرن العشرين فى مصر والشام، أى فى ظل حكم الدولة العثمانية.. آخذا فى الاعتبار «المسار الخاص الذى سارت فيه مصر»، بفعل المسافة التى حرص عليها محمد على بينه وبين الباب العالى لإتمام مشروعه فى تأسيس الدولة الحديثة فى مصر.
يبدأ المؤرخ الموسوعى كتابه بتقديم عرض تاريخى لتطور الدور الذى كان يلعبه الشخص الذى كان يؤمن المشورة للحاكم أو السلطان، والتى بدأت دينية وإدارية، أو ما يعرف تاريخيا «الكاتب»، ثم تطورت إلى أن كانت ثقافية وسياسية مع تجربة الحداثة وبناء الدولة الحديثة، وعرف هذا الشخص بـ «المثقف». ومن خلال ثنايا العرض، يتكشف لنا كيف «أن هذه العلاقة كانت عرضة للتبدل مع الانعطافات والانقلابات وتغير الدول»، مع ملاحظة كيف أن المؤلف يتعامل مع هذه الإشكالية:«إشكالية الكاتب: الفقيه والمثقف، فى علاقتهما بالسلطان»؛من خلال مقاربة مركبة من مستويين هما:
أولا: التعامل مع المسيرة التاريخية للعلاقة بحلوها ومرها، «حيث تأثرت الأجهزة العلمية والقلمية(كتاب الدواوين) بتوترات السلطة. وتسمح لنا ـ بحسب المؤلف ـ قراءة التجارب العربية فى مصر وبلاد الشام خصوصا، بتفحص الحقبات التى صعد فيها دور العلماء، مع بداية حكم المماليك، وانخفاض هذا الدور مع الدخول تحت السيطرة العثمانية.
ثانيا: التمييز بين السياق الذى يتحرك فيه كل من الفقيه من جانب، والمثقف، من جانب آخر، فى علاقتهما بالسلطان، وفى علاقتهما ببعضهما البعض…فالمؤلف يدرك منذ البداية بأن «ولادة المثقف فى البيئة العربية ترتبط بتجربة التحديث فى عصر النهضة والتنظيمات، وأن وظيفته لا يمكن فهمها إلا على ضوء الوظائف التى شغلها من قبل الفقهاء وكتاب الدواوين، مع التأكيد على ضرورة التمييز بين الوظيفة التى يضلع بها الفرد أو المؤسسة، وبين الدور الاجتماعى والثقافى والسياسى الذى يتبدل تبعا لتبدل الظروف وتغير الأسئلة من حقبة إلى أخري»…
وعلى مدى فصول الكتاب الستة (أكثر من 300 صفحة)، يستعرض لنا مؤرخنا ـ ومن خلال مصادر أساسية ـ قصة العلاقة، بتعقيداتها، ومساراتها ومآلاتها بين«الكاتب: الفقيه والمثقف، وبين السلطان وبين كل ما سبق والجماهير»… وفى الوقت نفسه يضع نقاطا مهمة على الحروف، فيما يتعلق بطبيعة الدولة، كذلك الفروقات المهمة بين الدولة المملوكية واختلاف الدولة العثمانية عنها… وجوهر العلاقة بين الدينى والسياسي، خاصة فى الدولة العثمانية، وبدء تأكيد المسافة بينهما…مرورا بما اسماه «شريك الرأى»، وصولا إلى المثقف عبر الكاتب «المتعلم».
بقيت الأحوال بين الكاتب الفقيه والسلطان فى صعود وهبوط إلى أن وصلنا إلى «الكاتب الجديد: المتعلم الذى تلقى علوما حديثة يريد أن يضعها فى خدمة الدولة»…هذا المتعلم الجديد جاء بالعلم من خلال البعثات والترجمة…فلقد صار الكاتب المتعلم خبيرا وعسكريا ودبلوماسيا،…الخ، حيث يقدم معرفته وعلمه فى إطار مشروع الدولة…ويعتبر الطهطاوى وعلى مبارك أهم نموذجين للكاتبين المتعلمين اللذين مارسا دورا تنويريا للدولة والسلطان…
إلا ان خالد زيادة يفرق بين الكاتب المتعلم والمثقف فى أن الأخير يحمل معرفة وعلما لابد أن يوضع فى خدمة مشروع أو دولة خالقة المشروعات التى تجلب المنفعة أى بشكل مؤسسي…وليس فى خدمة حاكم أو سلطة.
الخلاصة، أننا اليوم وبعد «حراكات» ـ لم تزل ـ تتفاعل، سوف يكون على المثقف أن يحسم أمره ويحدد تحيزاته، ويقنن شروط علاقته بالحاكم على أسس موضوعية ومؤسسية لصالح المواطنين…كما تضبط المسافة فى ضوء الخبرة التاريخية بين المثقف والفقيه…