«حال الاتحاد»، هو عنوان الخطاب الدورى الذى يلقيه الرئيس الأمريكى مطلع كل عام فى أثناء دورته الرئاسية، وتحديدا، فى الأسبوع الأخير من يناير…حيث يحيط مواطنيه بأحوال الولايات المتحدة الأمريكية على مدى سنة
كما يقوم بطرح تصورات الإدارة للسنة الجديدة فى تنفيذ الالتزامات التى تم التعهد بها فى أثناء الحملة الانتخابية. ويعد خطاب«حال الاتحاد» من التقاليد العريقة فى تاريخ السياسة الأمريكية…حيث يقدم الرئيس كشف حساب عما قام به من خلال سنة رئاسية، وتأكيد ما سوف يقوم به فى العام الجديد بحسب ما جاء فى البرنامج الرئاسي. فلقد كان الرؤساء الأمريكيون تاريخيا ، يتحدثون فى الخطوط العريضة لما وعدوا به قبل انتخابهم، فى الأغلب، ثم يركزون على السياسة الخارجية بعد ذلك…..ولعل ما يهمنى أن ألقى الضوء عليه فى هذا السياق هو التحول الجذرى الذى حققه أوباما فى مضمون هذا الخطاب التقليدي…فلقد بات يفرد مساحة من الخطاب لعمل نوع من التحليل الاقتصادى الاجتماعى لأوضاع الأمريكيين الحياتية، ويستخدم خطابا منحازا للشرائح الوسطى والدنيا من جسم المجتمع الأمريكي…
ونشير هنا إلى أن اوباما منذ قبل انتخابه قد حدد الطبقة التى سوف يتوجه لها لتكون قاعدته الاجتماعية…وأنه كان واعيا بالمسألة الاجتماعية الأمريكية التى دائما تتوارى وراء أمريكا الحلم والقوة والثراء…الخ…ما كشف الغطاء عن «المخفي»…
وأصبح يمكن للمرء من خلال هذا الخطاب أن يشاهد الجانب الخفى من المشهد الأمريكي…فأمريكا القوة العظمى هى فى النهاية تتكون من بشر يتوزعون على الجسم الاجتماعى بطبقاته وشرائحه المتنوعة…ولأسباب كثيرة ـ تاريخية ـ (تتبعناها فى مؤلفنا الإمبراطورية الأمريكية: ثلاثيةالثروة والدين والقوة، ودراستنا السوبر رأسمالية) تبلورت هناك «قلة ثروية» بحسب مايكل بارينتى فى كتابه ديمقراطية للقلة (2002)…وفى هذا المقام شرح بنية توزيع الثروة فى أمريكا كما يلي:» أن 10% من البيوت الأمريكية والتى تتربع فى قمة الهرم الاقتصادى تملك 98% من السندات المعفاة من الضرائب، كما تملك مؤسسات الأعمال 94% من الأصول المالية و95% من قيمة كل الودائع. كما تملك الطبقة الأغنى والتى لا تتجاوز 1% فقط من الأمريكيين ما يصل إلى 60 %من أسهم الشركات الكبري…» ما يساوى 40 من ثرواتها ـ بحسب ستيجلتز فى كتابه الصادر اخيرا ـ 2013: «ثمن اللامساواة»، وعلى العكس مما هو شائع فإن ثروة أمريكا لا تملكها طبقة وسطى عريضة…
وعليه، طرح أوبامافكرة تعبئة الطبقة الوسطي، كفكرة تعيد الاعتبار لهذه الطبقة ودمجها فى البناء الاجتماعى (فلا تكون على هامشه بالصورة التى وصفها يوما آرثر ميللر فى مسرحيته «موت بائع متجول» ـ 1949)…ومن ثم يمكنها أن تشكل «قوى ضاغطة» فى مواجهة القلة الثروية…شريطة دعمها وتحقيق قدر من المساواة الاقتصادية لها، وأن تتم استعادتها إلى المجال السياسي…فلا تعود تستكين،أو «تهرب من مواجهة الواقع بالتدين المفرط» بحسب أوباما…أو تركها تجتر مرارتها بسبب عدم اهتمام الجهات المعنية بأحوالها.. مما سبق جاء خطاب «حال الاتحاد» ليعبر عن كل ما عمل من أجله أوباما قبل وفى اثناء رئاسته، وفى القلب مسألة«المساواة»…مقدما نموذجا للعالم أن أمريكا الرأسمالية باتت معنية بالمسألة الاقتصادية الاجتماعية…وأن مفردات الخطاب السياسى أصبحت ذات مضمون اقتصادى اجتماعي…وانه كرئيس حريص على الطبقات الاجتماعية الوسطى والدنيا…فلم يعد رئيس الولايات المتحدة الأمريكية رئيسا للمجمع الصناعى التكنولوجى العسكري، أو أصحاب «الاحتكارات الكبيرة»…بل هو رئيس معنى بالجسم الاجتماعى على تنوعه…لذا نجده عمل علي:
نشر مظلة التأمين الصحى لكل المواطنين بميزانية تريليونية، ومن أجل هذا خاض معركة حقيقية على مدى دورة رئاسية ضد أصحاب المصالح الذين لم يدخروا جهدا من أجل تعطيل هذا المشروع…وكانت معركة اجتماعية نموذجية ـ يمكن أن نعرض لها لا حقا ـ للصراع بين شبكات المصالح والمواطنين، ولكنها تعكس واقعا أمريكيا لا نقترب منه، ولكنه يعبر عن تفاعلات الواقع الأمريكى فى جانبه المخفي. تطبيق تخفيض ضريبى لـ 95% من المنتمين للفئات الوسطى ووضع سياسة توظيفية جديدة وبخاصة للطبقة الوسطي. المساواة هى هاجس أوباما المحورى لأمريكا الداخل…لذا ليس مصادفة ان نجده يخصص نصف خطاب «حال الاتحاد»، للحديث عن المسألة الاقتصادية الاجتماعية للأمريكيين…حيث يتحدث بشكل مباشر عن: «المساواة الاقتصادية»، وعن الفجوة بين الشرائح العليا من المجتمع وبين الشرائح الدنيا…ويتطرق فى حديثه إلى الطبقة الوسطى وكيفية تدعيمها، و فرص تعليم لغير القادرين، والاهتمام برعاية المتقاعدين…فى هذا السياق يعلن بوضوح أنه بالرغم من التشريعات التى تم إنجازها من أجل دعم الطبقة الوسطى إلا أن معارضة القلة الثروية لها، ومن ثم تأخير تطبيقها قد «عمق اللامساواة»، ومهمتنا اليوم هى تسريع النمو «وتقوية الطبقة الوسطي» وإتاحة فرصة الصعود أمامها…
يعطى خطاب حال الاتحاد نموذجا لما يجب أن تكون عليه الخطابات الحكومية من حيث تجاوز العبارات الانشائية، ومقاربة الشأن الاقتصادى الاجتماعى وإعادة الاعتبار له… ويقدم لنا الدليل كيف أن أمريكا السوبر رأسمالية باتت معنية بهذا الشأن، وأخيرا أهمية مراعاة الطبقة الوسطى العمود الفقرى للمجتمعات…الطبقة الوسطى كانت ـ فى واقعنا ـ قاعدة انطلاق الحراك المجتمعى فى 25 يناير…ونتابع…