المسألة المتابعة المتأنية لكيفية الحوارات التي يتم بها التعاطي مع الشباب تعكس عدم قدرة علي فهم أن شباب اليوم قد طالهم الكثير من التحولات علي مدي العقود المنصرمة.
تحولات مركبة شكلت في مجملها قاعدة الحراك الشبابي الذي أطلق عملية التحول السياسي الذي لا تزال تفاعلاته سارية حتي تاريخه. وهو ما نتج عنه مسألة شبابية معقدة تحتاج إلي مقاربة غير نمطية. تتكون هذه المقاربة من عنصرين هما: أولا الاتجاهات الجديدة في فهم طبيعة المرحلة الشبابية والدور المتنامي للشباب, في عملية التغيير في المجتمع الإنساني. ثانيا: تنوع السمات ووحدة الموقف الشبابي.
أولا: حول معني الشباب; يقول الباحث الفرنسي بورديو: إن تعريف معني الشباب أصبح من الإشكاليات الكبري. ذلك لأنه لا تزال الذهنية السائدة تستدعي التفسير البيولوجي ـ النفسي لتعريف ماذا يعني الشباب. بلغة أخري لم تزل الإجابة الجاهزة النمطية حول تعريف الشباب هي التي تحتل الصدارة, حيث يمكن بسهولة الاستماع إلي إجابة من عينة: تمتد مرحلة الشباب من سن كذا إلي كذا وتتسم هذه المرحلة السنية بعديد من الملامح منها, ويبدأ الباحث النمطي في تعداد سمات جسمية ونفسية وذهنية صحيحة في المجرد, ولكنها لا تأخذ في الاعتبار أي تغيرات قد طرأت علي المجتمع. ولا الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ولا الفروقات البيئية ولا السياقات التاريخية.. إلخ.
وكأن الشاب كائن ثابت وساكن, هو هو مهما تغير الزمن أو تغيرت أشكال العلاقات وطبيعتها أو تغير الواقع. وهو أمر تم تجاوزه علميا وواقعيا. ففي تقديم لأحد الكتب ضم شهادات لمجموعة من الشباب في فرنسا نجد المقولة التالية: الشباب لا يوجد. فالحديث عن الشباب اليوم كوحدة مغلقة ليس فقط فيه مخاطرة بل أكثر من ذلك هو تصور ساذج للواقع الاجتماعي. فلم يعد مقبولا في الأدبيات التي تناولت المسألة الشبابية الحديث عن الشباب وإنما: شباب متنوع ومختلف, من حيث السن والأصل الاجتماعي والمزاج والتاريخ الخاص لكل شاب بما يتضمن خبرات وعلاقات وانجازات وإخفاقات.. إلخ.
الخلاصة أن الفرضية المسبقة, بأن كل الشباب لون واحد باتت فرضية خرافية. فكل شاب أصبح لونا في ذاته, له عالمه دنيته وتصوراته وأحلامه وتطلعاته ورغبته في أن يخوض تجربته هو لا تجارب غيره التي تستدعي من الماضي أو تفرض عليه في الحاضر. هذا التنوع اللافت بين شباب هذا العصر أنتج بشكل جدلي موقفا واحدا تجاه ما حولهم.
وهو ما ينقلنا إلي العنصر الثاني, وحدة الموقف الشبابي; بالرغم من تنوع الشاب فإن هناك ما يوحدهم تجاه ما حولهم من مؤسسات وثقافات وسياقات ورؤي, ويمكن في هذا المقام أن نرصد ما يلي: موقف شبابي أول هو: الانقطاع الجيلي: وأعني به هذا الموقف الواعي من قبل الشباب بضرورة الانقطاع بينهم وبين من سبقهم من أجيال ليس بالمعني التقليدي,أي الرغبة النمطية في الاختلاف في السلوك العام أو الشكل, أي المخالفة لمجرد المخالفة,ـ بل أكثر من ذلك بكثير. فالمخالفة النمطية كانت تحدث عندما كان هناك تعاقب جيلي طبيعي. لكن ولأن الفترة الزمنية التي كان تستغرقها الدورة الجيلية قد باتت قصيرة وسريعة وتتعرض لقفزات مذهلة بل طفرات مطردة. فقد أصبحنا نجد أجيالا مغايرة, تكاد لا تعرف ما قبلها. فما أن يبدأ الجيل في تكوين ثقافته وذوقه وخبراته ويستعد في تسليم ما اكتسبه نجد السياق المجتمعي يتغير بكل مكوناته ما يدفع الجيل الجديد يكتسب ما يعيشه من جديد دون أدني التفات لحصيلة ما اكتسبه الجيل السابق. وهكذا فقد التطور الجيلي الطبيعي أهميته. فجيل الوالد الذي ارتبط بعبد الحليم كان هناك فسحة من الوقت أن ينقل الوالد حبه لحليم إلي ابنه, إلا أن الجيل الواحد الآن بات ينتقل من صوت إلي صوت دون أن يؤبد نفسه في صوت بعينه.
الموقف الشبابي الثاني هو: فك الارتباط بالمرجعيات التقليدية ـ الوسائط الطبيعية وخلق عوالم مستقلة: نتيجة للتقدم المعرفي الذي بات مطردا, تنوعت المصادر التي يلجأ إليها الشاب, ومن ثم القدرة علي اختيار المرجعيات التي يطمئن إليها وقدرته علي إنهاء علاقته بها والانتقال إلي أخري…وتتحدد فائدة المرجعية بقدر فائدتها العملية المباشرة…ويرصد أحد الباحثين كيف ان هناك أجيالا ولدت ونشأت, في ظل إيمان بضرورة الانتماء إلي اتجاهات, أو تيارات فكرية, والارتباط بروابط اجتماعية, والرجوع إلي مرجعيات أعلي, فإننا نجد الأجيال الشابة الجديدة تولد وتنشأ لا تنتمي إلا لما يحقق لها فائدة مباشرة, حية, وملموسة. إنها الرغبة في خلق عوالم متجددة غير: الأسرة, والمؤسسة التعليمية النمطية, والمؤسسة الدينية, قد يجدها في الكافية, أو السيبر نت, أو.. إلخ.
أما الموقف الشبابي الثالث هو: التطلع إلي الأرقي; بفعل العولمة كثقافة عابرة للحدود. بات الشاب يشاهد مستويات حياة متميزة, ومساحات حرة متنوعة للتعبير عن الذات, وتقدير مجتمعي طبيعي وتلقائي يزداد تجاه المبدعين وأصحاب الإنجاز. وعليه لم يعد الشاب يقبل بما هو أدني فيما يتعلق: بمستوي الحياة اللائق, الخدمات, المساواة, العدالة, الكرامة, الحريات..الخ.
في ضوء ما سبق, لابد أن نتعامل مع المسألة الشبابية. يزيد من صعوبة التعامل هو أننا في لحظة تحول تاريخية حرجة…تحتاج إلي حضور شبابي فاعل, إلا أن ذلك له محدداته وشروطه ومؤسساته.. ونواصل الحديث.