ذكرني صديقي, بأننا من جيل عاصر دستورا ممتدا علي مدي40 سنة, كانت الفجوة بين المبادئ الدستورية والواقع كبيرة جدا…لماذا؟ وكيف نسد هذه الفجوة ولا نقع في هذا الفخ مرة أخري؟
علي المستوي السياسي, كان دستور1971 ينص علي: الاشتراكية الديمقراطية كنظام سياسي للدولة, وسرعان ما طبق نظام تعدد المنابر والنظام الحزبي في ظل الاتحاد الاشتراكي. واقتصاديا كان الدستور ينص علي: سيطرة الشعب علي أدوات الإنتاج وقيادة القطاع العام للاقتصاد, وفي ظله تقرر قانون الانفتاح في سنة1974 وتم البدء في بيع القطاع العام…تأكيد المساواة ومجانية التعليم, وشهد المجتمع خللا كبيرا في منظومة المساواة علي كل المستويات, وأصبحت المجانية مجرد نص دستوري…ويمكن قياس هذا الأمر علي كثير من الأمور…الخلاصة أننا سرنا في اتجاه معاكس لما هو مذكور من مبادئ دستورية…وزادت الفجوة بين النص والواقع…لماذا؟
أولا: ينتمي دستور1971 إلي دستور ما أطلق عليه: دستور ولي الأمر/ أفندينا; وهو دستور سلطوي من صنع الحاكم/ السلطة لتلبية احتياجات الحاكم الفرد/ الأقلية الحاكمة…وهو نوع من الدساتير يمكن أن تجد فيها نصوصا علي أعلي مستوي من التقدم ولكنها لا تجد لها ظلالا في الواقع…لذا قال أحد الباحثين في سوسيولوجيا الدساتير ما نصه: الديمقراطية ضرورة للدستور, ولكن وضع دستور لا يحتاج إلي ديمقراطية…بلغة أخري فإن شرط تفعيل المبادئ الدستورية علي أرض الواقع هو الديمقراطية…فلو كانت هناك ديمقراطية لأمكن حساب السلطة عندما سارت في مسار اقتصادي مغاير لما جاء في الدستور أو عندما تخلت الدولة عن كثير من مهامها تجاه المواطنين…(راجع دساتير من ورق لناثان براون)…
ثانيا: في مرجع مهم عن التجربة الدستورية المجرية(الديمقراطية الدستورية لمؤلفه جانوس كيس ـ2003), يشير إلي أهمية التمييز بين: التوافقوالتوفيق/التلفيق, عند كتابة المبادئ الدستورية أو ما يمكن أن نطلق عليه: التسوية الكاذبةFalseCompromise… التوافق يقوم علي جهد حقيقي يبذل علي المستويات: المعرفية,والمجتمعية,والسياسية,والثقافية, للوصول إلي نصوص تتسم بما يلي:
التعبير عن التغيير الذي حدث في الواقع:مطالب25 يناير,
القدرة/القابلية علي جعل المطالب حقيقة علي أرض الواقع والانتقال بالمجتمع/الدولة إلي وضع أفضل,
مراعاة توازن القوة ومحاولة التوافق فيما بينها في الحد الأدني,…
ونشير هنا إلي ما ذكرناه ـ علي مدي11 مقالاـ أن الجيل الرابع من الدساتير يأخذ بأن يكون الدستور مفصلا…(ونرد هنا علي تعليق لأحد القراء بأن القوانين ليس مجالها الدساتير)…وذلك حتي لا تأتي أغلبية سياسية وتضع تشريعات مغايرة للمبدأ الدستوري أو أن تتحكم موازين القوي ـ لاعتبارات كثيرة ـ في المبادئ الدستورية فتأتي علي النقيض من فلسفة وضعها, وقد حدث هذا كما أشرنا في بداية المقال بأن دستور1971 كان اشتراكيا وسارت مصر علي النقيض تماما…
وعليه إذا ما أعطي كتبة الدستور ظهرهم للتغيير, أو استجابوا لفئة علي حساب الآخرين, أو غاب عن تفكيرهم السؤال المستقبلي المحوري أي مصر نريد في المستقبل؟, أو كل ذلك معا…فإن النص الدستوري سوف يخضع لتسوية كاذبة نحذر منها…ومن مظاهر هذه التسوية الكاذبة يمكن رصد ما يلي:
الفكرة ونقيضها, أو نري أفكارا مبتورة, أو استدعاء مفاهيم تم التخلي عنها دوليا ولم تعد تستخدم قط, أو قيود تكون معطلة للتحول الديمقراطي, ومن ثم فتح الطريق لجعل المبادئ الدستورية عصية علي التحقق علي أرض الواقع, أو يتم استدعاء تعبيرات قانونية يعود تاريخها للباب العالي/الدولة العثمانية, أو يتم التراجع عن نصوص دستورية تم التوافق عليها تاريخيا باعتبارها مكاسب حقيقية للمواطنين, خاصة في فترة النهوض الوطني ببعديه السياسي/ المدني والاقتصادي/ الاجتماعي من1919 إلي1969, أو القبول بكتابة المبادئ الدستورية بدرجة أقل مما كتبت عنه في تراثنا الدستوري( الذي يعود إلي الثلث الأخير من القرن الـ19) أو أدني مما تضمنته المواثيق والعهود الدولية وتم التوافق عليها كونيا, أو التضييق علي المفاهيم بالرغم من التوجه العالمي نحو الميل في التوسع في تدقيق المفاهيم في دساتير الموجة الرابعة بهدف ضمان ضبط المفهوم, أو الانحراف عن ثوابت تم التراضي عليها تاريخيا,أو كل ذلك معا…
في ضوء ما سبق يمكن أن ندلل علي ما نقول بالكثير من الأمثلة…ونبدأ بالنظام الاقتصادي في مقالنا القادم…