منذ أكثر من40 عاما كتب يحيي حقي مقالا عن كيف يوقر ويفرح الدستور ـ في آن واحد ـ بالكيفية التي يكتب بها, من حيث البناء واللغة. وهي العملية التي باتت تعرف في الكتابات التي تتعلق بفلسفة الكتابة الدستورية بـ الدسترة.
وتعرف الدسترة, أو عملية كتابة الدستور, بأنها عملية بناء; تقوم علي: أولا; صياغة محكمة واضحة, من حيث اللغة والبنية, للنص الدستوري. وثانيا; عاكسة لتطلعات المواطنين فيما ثاروا من أجله فيما يتعلق بالحريات والحقوق وتأمين قواعد عادلة لحياة كريمة لكل المواطنين دون تمييز وفق جديد الموجات الحقوقية, والمسار الدستوري الوطني. وثالثا; محددة لحركة الوطن ـ دولة ومؤسسات ومجتمع ـ في المستقبل من حيث النموذج التنموي وإدارة مؤسسات الدولة من القاعدة إلي القمة وفق التطورات العالمية في هذا المقام. وتتم هذه العملية في ضوء التوافق الوطني بين كل ألوان الطيف الوطنية. وفي ضوء ما سبق يمكن الحصول علي منتج دستوري مركب عظيم القيمة.. خاصة, وبمراجعة العديد من المصادر المعتبرة( منهاRe-ConstitutingtheConstitution, وأخري) وجدنا أن إصدار دستور في أي بقعة في العالم: الهند, ماليزيا, جنوب إفريقيا, البرازيل, نيوزيلاند..,(وهي كلها من البلدان الصاعدة/ البازغة التي تنتمي دساتيرها لما يمكن أن نطلق عليه دساتير الموجة الرابعة; بعد الدساتير التأسيسية, ودساتير ما بعد الحرب العالمية الثانية ودساتير ما بعد تفكيك الاتحاد السوفيتي). أقول وجدنا أن إصدار دستور لابد أن يراعي المقومات الثلاثة سابقة الذكر. فمن حيث اللغة والبناء; لا يصح أن يأتي النص غامضا, أو مراوغا, أو عاما, أو يلجأ المشرع إلي اللف والدوران, أو بحسب يحيي حقي: يلجأ إلي الغموض من قبيل التستر أو التعقيد من قبيل المعابثة.. الخ. وهنا نشير بوضوح إلي هذا الحوار الذي ينم عن غياب للمعرفة حول هل يكون الدستور قصيرا أم طويلا؟
واقع الحال تقول الدراسات التاريخية أن الدساتير التأسيسية كانت قصيرة, إلا أن الدساتير التي تنتمي للموجة الرابعة تميل أن تكون طويلة حيث تفصل قليلا في تعريف المبدأ الدستوري كما تضع القواعد القانونية المفسرة له. لذا لم يعد يكتفي بالمبدأ الدستوري والإحالة للقوانين المنظمة لاحقا. ذلك لضمان ألا تكون القوانين مناقضة للمبدأ الدستوري. أما من حيث استجابة النص الدستوري لمطالب الثورة; فمن غير المعقول ألا يعكس النص الدستوري شعارات الحراك الثوري. فإذا كانت الحركة الثورية تنادي بالعدالة الاجتماعية فلابد من مراعاة ذلك في النصوص الدستورية, ليس من حيث البلاغة الإنشائية فتذكر في عبارة عابرة, وإنما من حيث المبادئ الدستورية التي تجعل هذا المطلب حاكما ونافذا في آن واحد في حياتنا اليومية.
ما يعني إدراك طبيعة العملية الإنتاجية وعلاقات العمل السائدة وضمان حقوق المواطنين ووضع القواعد التنظيمية التأمينية المتنوعة. وفي مجال الحريات والحقوق لابد وأن يتوافق النص الدستوري مع مايلي: التراث الدستوري المصري, فلا يليق أن يكتب المبدأ الدستوري في دستورنا قيد الإعداد متخلفا عن ما بلغه نفس المبدأ في دساتير سابقة. ونشير هنا كمثال: المبدأ المتعلق بحرية العقيدة, كيف كتب في دستور1923 وفق شروط, ثم كتب بلا قيود في دستور.1971 ثم ما آل إليه هذا النص فيما وصفته مبكرا دستور الغلبة/دستور منتصف الليل, المعطل في.2012 الموجات الحقوقية الجديدة; فلا يصح ان يأتي النص الدستوري دون أن يأخذ في الاعتبار حقوقا مثل:الحقوق الرقمية,الحقوق البيئية, حقوق المعاقين,حقوق الملكية الفكرية, وغيرها.. إلخ. وفي هذا المقام لا أفهم كيف يتضمن نصا دستوريا حديثا عن الهاتف والبرق دون ذكر لتقنيات التواصل الاجتماعي المعاصرة.
المواثيق الدولية; والتي هي نتاج تطور كوني للسياقات المجتمعية المتنوعة في المجالات المختلفة: العمل, والحريات النقابية, والمرأة, والطفولة.. إلخ.
وأخيرا من حيث إجابة النص الدستوري عن أي مصر جديدة نريد; فلابد أن يحرص النص علي أن يضع رؤية للنموذج التنموي المطلوب لمصر تفصيلا, وللتحديث المطلوب لمؤسسات الدولة, وللمحليات, وللمجتمع المدني الذي يجب أن يكون حرا لأن حريته تعني حرية المواطنين في المجال العام: السياسي والمدني وهي الحرية التي تعد المقابل الموضوعي لإسقاط الشمولية بوجهيها السياسي والديني, والإجابة عن قضايا من نوعية: اللامركزية وكيف تطبق. لذا يعتبر كثير من الدارسين أن عملية الكتابة الدستورية هي فرصة لتجدد, ليس فقط, مدرسة الكتابة الدستورية وإنما مدارس الاقتصاد والفلسفة واللاهوت/الفقه وعلم الاجتماع والعلوم السياسية وفلسفة العلوم..إلخ. هي حالة إبداعية شاملة. ونواصل حديثنا عن الكتابة الدستورية في مقالنا المقبل.