حرص الذين أطلقوا السياسات الاقتصادية المعروفة بسياسات الليبرالية الجديدة, بداية من سنة1979 مع تولي ثاتشر وريجان من بعدها مقاليد الحكم أن يحققوا هذه السياسات بأقل مقاومة ممكنة.
فلقد كانت هذه السياسات ـ وبشكل واضح ـ تعتبر تحولا عن السياسات التي مورست كونيا منذ أزمة1929 والتي حرصت علي توفير المساواة بين البشر بغض النظر عن المكانة أو الثروة و اللون أو الجنس أو العقيدة…نفذ هذه السياسات الشركات الاحتكارية بهدوء, لذا أطلق عليها السيطرة الصامتة أو الهادئة( كما أشرنا في مقالنا السابق)…حكمت هذه السيطرة مجموعة من المبادئ لتمرير السياسات الجديدة…سياسات الليبرالية الجديدة التي تقوم علي الخصخصة واقتصاد السوق المفتوح, وهي السياسات التي بدأت في1979 وفضح أمرها مع أزمة2009 بعد30 سنة…فما هي هذه المبادئ التي أظنها ضالة بحكم النتائج؟
يحصرها لنا الدكتور جورج قرم في كتابه حكم العالم الجديد, في ثمانية مبادئ…المبدأ الأول; يقول إن الكائن البشري باعتباره مخلوقا عاقلا يتصرف دوما في مجال الاقتصاد بنحو أناني وعقلاني في آن واحد من أجل تحقيق أقصي رفاهية…والمبدأ الثاني; إن جمع هذه التصرفات الفردية يضمن للمجتمع الرفاهية الكبري…أما المبدأ الثالث; فيلقي علي الدولة ـ بالتبعية ـ أن تفسح المجال لانطلاق الأنانية الفردية بحرية, وكذلك لمبادراتها الاقتصادية بغية تحقيق أقصي الرفاهية الاجتماعية الجمعية…ويمنع المبدأ الرابع; الدولة من التدخل في المجال الاقتصادي كي لا يتقلص رفاه الجميع…ويستدرك صانعو السياسات الليبرالية الجديدة من خلال المبدأ الخامس; بأن السوق وحدها تستطيع لعب دور الحكم بين مصالح الأفراد بواسطة لعبة العرض والطلب الحرة للسلع والمنتجات والخدمات والأصول المالية أو العقارية…ويؤكدون من خلال المبدأ السادس; أن السوق لديها من الآليات أن تصحح نفسها بنفسها كلما ارتكبت تجاوزات أو برزت بعض الاختلالات في التوازن; ومن ثم فليس هناك حاجة إلي أي تدخل من الدولة أو هيئات الرقابة الرسمية.. خاصة أن من شأن كل رقابة أو تدخل أن يؤدي إلي تعطيل لعبة المنافسة الحرة بين المصالح الخاصة, التي تكفل وحدها تحقيق الرفاهية الاجتماعية القصوي…وفي هذا السياق ينبه الليبراليون الجدد من خلال المبدأ السابع: إلي أنه من الخطأ التنديد بظاهرة المضاربات في الأسواق, إذ إن المضاربين يستفيدون فقط من الفروقات المؤقتة الحاصلة في الأسواق أو بين الأسواق, وبهذا يسهمون في جعل الأسواق متساوية ومتجانسة عن طريق إلغاء التنافر الذي قد ينشأ هنا أو هناك بصورة مؤقتة, إنهم إذن قوة خيرة وليسوا أشخاصا قليلي الذمة وشغوفين بتحقيق الربح السريع واليسير…وفي ضوء ما سبق ينبغي وهذا هو المبدأ الثامن; تطبيق مباديء تحرير الأسواق ليس داخل حدود الدول فحسب, وإنما أيضا في العلاقات الاقتصادية والمالية التي تقوم بين فاعلي مختلف الأسواق القومية. لذلك يجب أن يكون العالم سوقا حرة واحدة, حيث يمكن لجميع الفاعلين الاقتصاديين ولمصالحهم الخاصة أن تتطور من دون معوقات. إن الحمائية التي تطبق لمصلحة الأسواق القومية في وجه حسنات المنافسة الدولية تمثل شرا مطلقا ينبغي مكافحته بلا كلل…
هذه خلاصة الأفكار التي تمثل عقيدة ـ تجاوزا ـ الليبرالية الجديدة…وهي تعد علي النقيض تماما مما حرص عليه الاقتصاديون عقب أزمة1929 من ضرورة توافر دور للدولة وحماية الفقراء وضبط الأسواق ورقابتها ومواجهة أي تجاوزات ومنع الاحتكار واستفادة القلة فقط من مضاربات الثروة, وأخيرا الحرص علي وجود أنظمة تأمينية ترعي المواطنين تحقق المساواة للجميع في المواطنة…لذا تمثل هذه الأفكار انقلابا جذريا في مسيرة البشرية.
وليس مصادفة أن تحالفت المؤسسات الدولية في دعم هذا التوجه الذي عرف أكبر عمليات تدفق للمعونات/المساعدات/القروض عرفتها الانسانية…وهي نفس الفترة التي اتسعت فيها الفجوة بين الأغنياء والفقراء كونيا( في داخل البلد الواحد وفي دول المركز الغنية)…وتعثر توزيع الثروة العامة للبلاد علي الجسم الاجتماعي…لذا كان المواطنون يشعرون بأن هناك انتعاشا ماليا وربما معدل نمو ولكنه لا ينعكس في الواقع في صورة خدمات أو أنظمة تأمينية أو إعادة تأهيل للمجتمعات الفقيرة…الخ.
ومن جانب آخر حرصت المؤسسات الدولية علي أن تروج لمفردات مثل التنمية المستدامة والمسئولية الاجتماعية والتمكين وتحميل مؤسسات المجتمع المدني مسئولية تنفيذها:لتعويض غياب الدولة من جهة, وتفرغ الشركات الاحتكارية ومن يخدم عليها من أعضاء شبكة الامتيازات المغلقة للاستثمارات العابرة للحدود لتحقيق مصالحها من جهة أخري…
هكذا مارست الشركات الاحتكارية تحت مظلة المؤسسات الدولية وإجماع واشنطن بقيادة ثاتشر وريجان الهيمنة الصامتة بمبادئ ضالة…أدت إلي إهدار المساواة…فجري ما جري…وهو ما نفصله الأسبوع المقبل.