مئوية الفيلسوف الفرنسى إدجار موران
فى الأسبوع الماضى، كنت أتنقل بين القنوات الأوروبية الإخبارية والثقافية، وفجأة توقفت عند أحد البرامج.. استوقفنى ديكورها البسيط الجميل والحداثى اللافت.. حيث تجلس مجموعة من جيل الشباب تتحاور مع أحد الكهول الذى كان فى قمة نشاطه الذهنى يحاور الشباب ويجيب عن أسئلتهم ويتواصل مع ملاحظاتهم عبر حوار ممتد.. وكان كذلك فى قمة أناقته التى تنتمى للذوق المعاصر المتحرر غير الكلاسيكى.. وكان الجلوس فى غرفة أقرب إلى المكتبة التى تطل عبر نافذتين على مساحة خضراء ممتدة.. وسرعان ما عرفت المتحدث ــ بحديثه الموسوعى و«كوفياته» الحرير التى تطوق رقبته دوما ــ خاصة وقد قرأت له مبكرا.. فلقد كان ضيف اللقاء الفيلسوف الفرنسى المعاصر الذى لم يزل يشتبك مع جديد إشكاليات العصر «إدجار موران» (1921) صاحب الكتابات التالية: المنهج، وإلى أين يسير العالم؟، ونحو سياسة حضارية، وثقافة أوروبا وبربريتها،...، إلخ..
أعجبنى جدا كيفية الاحتفاء بمئوية أحد أعلام الفكر والثقافة المعاصرين من خلال الحوار التليفزيونى الجاد الممتد بين المُحتفى به وحوارييه من الشباب حول العديد من القضايا الحقيقية.
(2)
إسقاط الحدود بين الفكر والواقع.. وبين الحقول المعرفية
يقدم موران نموذجا للمفكر الذى اجتهد عمليا أن يربط بين الفكر والواقع.. فلم يكن ذاك الشخص الذى ينتمى لفئة الفلاسفة والمفكرين الذين يلوذون بالبرج العاجى باعتباره مكانهم الطبيعى بعيدا عن العوام وواقعهم الشائك. وإنما كان فى طليعة المقاومين ضد: الفاشية، وانخرط فى صفوف المقاومة ضد النازية وقت الحرب العالمية الثانية. كما اتخذ موقفا سياسيا حاسما ضد الستالينية. كما له مواقف صريحة مؤيدة للحق الجزائرى فى الاستقلال وللحق الفلسطينى، ورافضة للحرب على فيتنام ولنظام الأبارتهيد الجنوب إفريقى.. درس، إضافة للفلسفة، التاريخ والجغرافيا والحقوق وعلم الاجتماع والأنثربولوجيا. كما درس الفيزياء والبيولوجيا وظل يتابع جديد التقنيات العلمية إلى يومنا هذا.. ولعل مجلداته المرجعية الستة التى أصدرها فى الفترة بين عامى 1977 و2004 تحت عنوان «المنهج» تشير إلى مدى موسوعية هذا الرجل.
ونشير إلى عناوين هذه المجلدات كما يلى: «طبيعة الطبيعة» (1977)، و«حياة الحياة» (1980)، و«معرفة المعرفة» (1986)، و«الأفكار» (1991)، و«إنسانية الإنسانية: الهوية الإنسانية» (2001)، و«الأخلاق» (2004).. وقد تبنت المنظمة العربية للترجمة تعريب كل من: الجزء الثالث المعنون «المعرفة: أنثربولوجيا المعرفة»، والجزء الرابع الخاص «بالأفكار: مقامها، حياتها، عاداتها، وتنظيمها»؛ وقد قام بهذا الجهد الكبير الباحث السورى الدكتور جمال شحيد...ويعد الكتاب بحسب ما جاء فى مقدمة الرجمة العربية أحد الكتب التأسيسية فى الفكر المعاصر حاول فيه «موران» أن «يستشف سمات العقل البشرى المركب. وحلل عملية الوصول إلى المعرفة عن طريق الحوسبة».. والقارئ «لموران» سوف يعرف أنه أمام شخص قد كسر كل الحدود المصطنعة والمتوهمة بين الحقول المعرفية المتنوعة، والتى لم يزل العقل العربى أسيرا لها من خلال الفصل القاطع بين العلوم الإنسانية والعلوم التطبيقية، أو فيما هو شائع بين الأدبى والعلمى والرياضة.
(3)
إلى أين يسير العالم: الإخضاع فالاحتضار.. ولكن!
فى عام 2007 أطلق «موران» تحذيرا مبكرا حول ما سيتعرض له العالم مستقبلا بدخوله فيما سمّاه: «العصر الحديدى الكوكبى».. حيث يسم «موران» هذا العصر بأنه سيشهد تقدما تقنيا غير مسبوق ولكن ستظل الإنسانية أسيرة للهيمنات والإخضاعات المتنوعة.. ولكنه يحذر من أن «التمادى فى الهيمنة والإخضاع من قبل البعض- القلة-على الآخرين- الكثرة- يعنى أن الكوكب سوف يحمل كل مقومات الاحتضار» أو «العدم المتبادل».. ومن ثم لا بد للعالم من خلال إيقاظ ضمائره الإنسانية الواعية وقف ما أطلق عليه الموت الكبير؛ وتوجيه النضالات المواطنية الكوكبية ضد ما وصفه بالظلم الإنسانى الكبير.. ذلك لأن الإنسانية «قدر مشترك»؛ وكل إنسان/ مواطن أيا كانت مكانته وثروته وسلطته وعرقه وجنسه ودينه يجب أن يتحمل ما عليه حيالها.. أو ما يطلق عليه موران التضامن الكونى؛ خاصة فى زمن الجائحة الفيروسية التى تعد إحدى الكوارث الحيوية فى تاريخ البشرية من جهة، والرأسمالية الجائرة المنفلتة من أى رقابة.. ولكن وبالرغم من مركب الجائحة/ الجائرة الذى يواجه البشرية إلا أن موران يؤمن بأن «الأزمات تجدد الخليقة». تحية للفيلسوف فى مئويته وللكيفية التى يتم بها الاحتفاء بالقامات الفكرية.. وأدعوكم لقراءة سيرته وأعماله التى تخاطب الإنسان/ المواطن فى كل مكان.
نواصل...