مع استمرار الجائحة الفيروسية للسنة الثانية، كثرت الاجتهادات فى شتى المجالات حول العالم الذى تتشكل ملامحه والذى يبدو أنه سيحل محل العالم الذى ألفناه لعهود...
لم يكن الدافع لذلك مجرد الخسارة الاقتصادية الفادحة التى تتكبدها دول العالم بسبب الجائحة ــ نشير إلى أن إحدى الدول الكبيرة الفائقة التقدم خسرت ما يقرب من تريليونين من اليوروهات خلال هذه الفترة ــ وإنما ما سينجم عن ذلك من تحولات جذرية فى الكثير مما يتعلق بالإنسان من جانب والأنظمة المُسيرة للعالم من جانب آخر.
إن أزمة كوفيد 19، منذ انطلاقها،لم تكن أزمة صحية، محضة، وإنما كانت أزمة كاشفة لأعطاب العصر فى شتى المجالات. فما أن حطت الجائحة على الكوكب وتفشت فى أرجائه بسرعة مطردة تبين خلال وقت قصير مدى هشاشة الكثير من مجالات الحياة الإنسانية فى قدرتها على مقاومة آثار الجائحة من جهة، وتحمل استمراريتها من جهة أخرى. الأمر الذى استوجب طرح أسئلة مصيرية حول: مصير العلاقات الاجتماعية، وقيمة الحياة الإنسانية، وكفاءة النظام الصحي، ومدى فاعلية الأنظمة التأمينية،...،إلخ...
ومع دخول الأزمة الصحية سنتها الثانية، وبالرغم من توافر لقاحات أولية مقاومة للفيروس، نجدها وقد خلقت حالة مركبة من القلق والخوف بفعل تداعيات الجائحة خاصة الاقتصادية والاجتماعية وكيف يمكن التعافى منها. إضافة للشك فى مدى فعالية ومصداقية وقدرة النظام الاقتصادى والاجتماعى العالمى الراهن فى إنقاذ العامة فى أزمنة الأزمة ــ حسب قول الفيلسوف السلافى سلافوى جيجيك فى كتابه الثانى عن أزمة كوفيد 19 والذى وصفته دورية النيويوركر بسيد الملاحظة الحدسية فى العالم ــ والذى شرح فيه مدى الاضطراب الذى لحق بديناميكيات السلطة والقوة والمعرفة والعلم والمال وما ترتب عليها من إخفاقات فى التعامل الناجز مع الجائحة الفيروسية بالرغم من الإنذارات المبكرة التى أطلقتها منظمة الصحة العالمية. وهو الأمر الذى يدفع دون مساومة أو تسويف إلى ضرورة ــ بحسب الفيلسوف الأشهر فى النصف القرن الأخير هابرماس ــ إعادة ترتيب الأولويات فى حياتنا...
إلا أن ضرورة إعادة ترتيب الأولويات فى حياتنا على المستويين: الإنسانى والمواطني؛ يعني، فى المقابل،لزومية أن جديدا لابد أن ينشأ على المستويين المجتمعى والدولى يستجيب للزمن الجديد ما بعد الكوفيد 19...ومن ثم التحرر من المبدأ الذى أطلقته مارجريت تاتشر وقيد البشرية لعقود القائل: لا بديل...
إن الدرس الأول المستفاد من محنة الجائحة خلال سنتها الأولى المنصرمة هو أنه لم يعد بمقدور البشرية المضى قدما فى الطريق نفسه أى استمرارية النظام الاقتصادي/الاجتماعى القائم بنفس استراتيجياته وسياساته وخياراته التى لا تضمن التنمية والتقدم للجميع.
والدرس الثانى المستفاد هو أن الجميع دون تمييز أو استثناء معرضون للإصابة...فالجائحة الفيروسية ــ بحسب جيجيك ــ تتسم بالديمقراطية، حيث إنها لاتميز بين الفقير والغنى أو بين رجل الدولة والمواطن العادي، ونضيف ولا بين مواطن ينتمى لدولة متقدمة أو مواطن ينتمى لدولة أقل تقدما...فجميعنا نستقل نفس السفينة...
أما الدرس الثالث المستفاد هو أن الأزمة الصحية الممتدة للسنة الثانية هى جزء من الأزمة البيئية المعقدة التى تهدد مستقبل الكوكب ــ بحسب إجابة الفيلسوف الفرنسى المعاصر برونو لاتور«74 عاما» فى حوار أجرى معه مطلع هذا العام ونشر بدورية الدوحة فى فبراير 2021 عن الأزمة الصحية التى يمر بها العالم فأجاب أنها جزء من الأزمة البيئية حيث تربطهما علاقة وثيقة ببعضهما البعض ــ ونضيف لما سبق أن الأزمتين المتشابكتين هما تجسيد لأزمة مركبة تتعلق بالسياسات الاقتصادية الجائرة على الكوكب ومواطنيه.
وفى ضوء الدروس الثلاثة الكبيرة ــ التاريخية ــ صار نقاش جاد حول أهمية إيجاد ما يمكن أن نطلق عليه « بديلا تاريخيا جديدا: اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا»؛ يقوم على التعاون والشراكة والاستدامة بين دول العالم...بديل ــ بحسب أحد المفكرين ــ يمثل تغييرا جذريا لما هو قائم وأخفق أمام الجائحة. بديل يعيد بناء الاقتصاد والسياسة والثقافة والتربية والقانون والعلوم ونمط التحضر والحفاظ على البيئة وكيفية استدامتها والتنشئة والعلاقات وتكوين إنسان جديد غير فرداني...إلخ...
ففى هذا السياق، لم يعد ممكنا ــ مثلا ــ أن تتحدث كل دولة ــ بمفردها ــ عن السياسات الصحية المطلوبة لمواجهة الجائحة...كذلك ليس مقبولا أن تتنافس شركات الدواء فيما يتعلق باللقاحات التى يتم الوصول إليها كونها سلعة. ومن ثم تعتبر تركيبتها سرا لا يجوز الإفصاح عنه لما سيدره من مداخيل للمساهمين فى هذه الشركات...أليس من حق مواطنى الكوكب أن يعرفوا أولا بأول ما هو جديد المعامل فى الشركات الدولية التى أخذت على عاتقها ابتكار لقاحات لمقاومة الفيروس وتحوراته المختلفة...كما أليس من حق مواطنى الكوكب كشف حقيقة الخلافات التجارية بين هذه الشركات خاصة الأوروبية وأثر هذه الخلافات على الواقع...وكيف يمكن تصويب السياسات الصحية لكى تتوافق مع ما استجد من تحديات صحية وبيئية وتنموية...هذه الأسئلة وغيرها من التى تتعلق بالشأن الصحى والبيئى والتنموى معا ــ سوف تمتد ــ أردنا أو لم نُرد ــ إلى مختلف القطاعات والمساحات التى يتحرك فيها إنسان/مواطن اليوم...
الخلاصة، إذا ما أردنا مواجهة جادة وجدية فعلى دول النظام العالمى أن تتبنى تفكيرا جمعيا يعمل على بناء بديل تاريخى جديد يقوم على معياريات جديدة تضمن واقعا أكثر أمانا وإنسانية...فعلى سبيل المثال، بدلا من أن تسعى كل دولة بمفردها لإنشاء شبكة أمان صحى خاصة بها فعلى جميع الدول أن تفكر معا فى تأسيس شبكة أمان صحى شامل عابرة للحدود والقارات ذات طابع إنسانى يتجاوز المقاربات الاقتصادية والأيديولوجية...وهذا مثال للنقاشات التى تشغل بال مجموعة من المفكرين المعتبرين فى العالم...