مؤتمر ميونيخ للأمن هو المنتدى الاستراتيجى الأهم عالميا الذى ينعقد سنويا فى ألمانيا منذ العام 1963، حيث يحضر فعالياته: قادة سياسيون، وعسكريون، ودبلوماسيون، وبرلمانيون، ومفكرون استراتيجيون لمناقشة كل ما يتعلق باستراتيجيات الغرب تجاه العالم. والمتابع لفعالياته على مدى ستة عقود ــ تقريبا ــ يدرك مدى جدية ما يطرحه من أفكار وتوجهات تحدد مسار النظام العالمي(الغربى الرأسمالى بالأساس) على عديد الأصعدة...
وقبل ثلاثة أسابيع، وعبر تقنيات التواصل الرقمى، نظم المؤتمر لقاءه السنوى المعتاد ولمدة يوم واحد تحت عنوان: ما وراء الغرب: تجديد التعاون عبر الأطلسى ومواجهة التحديات العالمية...وقد عكست الكلمة الافتتاحية للدبلوماسى الألمانى المخضرم فولفانج إيشنجر مدى قلق المعنيين فى أوروبا إلى ما آلت إليه الأوضاع العالمية من تأزم...وذلك ليس بسبب الجائحة الفيروسية وتداعياتها الكارثية فقط، وإنما، أيضا،بفعل مجمل الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التى اجتاحت الكوكب خلال العقد الأخير...ما أدى إلى عجز الغرب كنموذج كوكبى لأن يقوم بدوره العالمى والحضارى...وهو الأمر الذى طالما حذرت منه نقاشات المؤتمر فى السنوات الأخيرة...فعلى سبيل المثال لفت المؤتمر النظر فى 2018 إلى أن العالم قد بات على حافة الانهيار.. والأخطر هو ما خلصت إليه النخبة الأوروبية فى السنة الماضية من تراجع وعجز (وربما تلاشي) الدور الغربى ويتضمن الدور الأوروبى أو ما عبر عنه رئيس المؤتمر بكلمة مبتكرة ومركبة هى: Westlessness, فى لقاء 2020...إلا أنه يعود هذا العام ليطرح ضرورة تجاوز هذا العجز والتطلع إلى ما بعد هذه المرحلة العابرة من خلال إعادة هندسة التحالف العابر للأطلسى للعناصر التى تمثل كتلة الغرب فى المنظومة العالمية...
وفى نص، أظنه مهما للغاية، يقول رئيس المؤتمر: إن العجز الغربى لا يرجع ــ فقط ــ لأن العالم بات أقل غربية وإنما لأن الغرب نفسه قد أصبح أقل غربية...ويتمثل ذلك فيما أصاب الغرب من عدم قدرة على الدفاع عن منظومة القيم والأعراف والتقاليد التى شكلت الديمقراطية الليبرالية التى ميزت الغرب تاريخيا. الأمر الذى أصابها بالوهن والهشاشة وهو ما تجلى فى: أولا: الصعود المتنامى للقوى اللاليبرالية والفوضوية والعنصرية والإرهابية. ثانيا: بروز مجموعات تقلل من قيمة القانون واحترام نصوصه. ثالثا: تزايد الجماعات المعادية للعلم فى البلدان التى عُرفت بأنها مهد التنوير. رابعا: التطورات المؤسفة التى جرت فى الولايات المتحدة الأمريكية عقب عدم اعتراف الرئيس الأمريكى السابق بنتائج الانتخابات وكانت ذروة هذه التطورات اقتحام مبنى الكابيتول بما يمثل من قيمة رمزية ومثل تهديدا حقيقيا للديمقراطية الليبرالية...يضاف إلى ما سبق الفشل الواضح فى إدارة الأزمة التى ألمت بالعالم من جراء الجائحة الفيروسية. حيث يقول رئيس مؤتمر ميونيخ للأمن: لقد أخفقت الدول الغربية فى تبنى تعاون فاعل حيالها مقارنة بالأزمة المالية والاقتصادية التى جارت على مواطنى الكوكب منذ أكثر من عقد..حيث تسارع قادة التحالف عبر الأطلنطى للتنسيق فيما بينهم من أجل وضع معايير مالية وسياسية لمعالجة الوضع. إلا أن الغياب التام لدول الغرب: أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، كان ملحوظا فى الاستجابة لأضخم كارثة يتعرض لها العالم منذ الحرب العالمية الثانية...ما جسد ــ حرفيا ــ ظاهرة تلاشى الغرب... ولعل مداخلة بايدن ــ التى تم الاحتفاء بها كثيرا باعتبارها عودة حميدة للتحالف التاريخى للغرب ــ بعد انسحاب أمريكى مدة الزمن الترامبى تفسر ما سبق بأن الصيغة التى اعتمدها ترامب بأن الآخرين فى التحالف الغربى يعدون منافسين هى صيغة يتم تصحيحها اليوم وذلك بإعادة بناء التحالفات مع أوروبا فى ضوء القيم الديمقراطية المشتركة...أو بحسب تعبير بايدن «تجديد التحالف العابر للأطلسى» وإصلاح ما أصاب الشراكة التاريخية بين مكونات هذا التحالف الذى يعتبره حجر الزاوية لكل ما ينبغى تحقيقه فى القرن الحادى والعشرين...انطلاقا من مبدأ التعاون فيما يهدد الأسرة الدولية من أخطار وتهديدات مثل: الكوفيد ــ 19، والتغيرات المناخية المدمرة للكوكب، والإرهاب، والتهديدات الصينية والروسية...وقد حظيت المداخلة بترحيب كبير من أنجيلا ميريكل، وماكرون وغيرهما...
يعكس التصور الأمريكى السابق الذى أعلنه بايدن فى لقاء ميونيخ تحولا جذريا فى السياسة الأمريكية من جهة واستعادة للدور الغربى فى المنظومة العالمية من جهة أخرى...ويصب فى المضى قدما نحو ما عبر عنه رئيس مؤتمر ميونيخ للأمن فى تجاوز العجز الغربى الراهن وبناء تضامن غربى فاعل ونشط يكون قادرا على التعاطى مع التحديات الكبرى التى يتعرض لها العالم خاصة من قبل الصين وروسيا وإيران...ما سيستدعى إعداد رؤى استراتيجية جديدة تحفز العودة الغربية عبر الأطلسية وهو ما سيتم تباعا ــ فيما أظن ــ من خلال مؤتمرات: الكبار المختلفة، وحلف الأطلنطى، والأمم المتحدة،...،إلخ...
وبعد، بالرغم من الوضوح والصراحة التى اتسمت بها نقاشات كل من مؤتمر ميونيخ للأمن وقبله منتدى دافوس (عرضنا لها الأسبوع الماضي) حيث صورا ما آل إليه الواقع الاقتصادى والسياسى والصحى فى العالم وما يجب عمله لتجاوز الواقع من: أولا: ما دعت إليه نخبة دافوس الرأسمالية على ضرورة إحداث تصويب للنظام الاقتصادى العالمى واتباع ما أطلقوا عليه رأسمالية أصحاب المصلحة. ثانيا: ما توافق عليه قادة الغرب على ضرورة تجديد التحالف الغربى عبر الأطلسي؛ إلا أن المشاركين لم يتطرقوا لأسباب فشل مواجهة الأزمات البيئية والطبيعية والصحية، والإخفاق الاقتصادى...ما سيصعب كلا من عمليتى التصويب والتجديد.