تحويل عالمنا: القيمة والممارسة

تحويل عالمنا؛ هي المهمة التي التزم بها المجتمع الدولي قبل ما يزيد عن خمسة أعوام...وذلك عندما أصدرت الجمعية العمومية للأمم المتحدة في 25سبتمبر 2015، خطتها للتنمية المستدامة خلال خمسة عشرة عاما، أو ما عرف بخطة التنمية المستدامة 2030...

   وقُصد من تحويل عالمنا، كما جاء في النص الصادر، أن يلتزم المجتمع الدولي بجعل العالم: أكثر عدلا وسلاما، ليصبح عالم بلا فقر، عالم أكثر استدامة وقدرة على الصمود. ووصف النص عملية تحويل العالم بأنها أقرب: برحلة جماعية تهدف ألا تخلف أحد خلف الركب...فهي لجميع مواطني الكوكب دون استثناء أو تمييز أو تفضيل...وفي نفس الوقت لإنقاذ كوكب الأرض من رأسمالية جائرة بالنسبة للإنسان والطبيعة والبيئة...ومن ثم ضمان استمراريتها ــ من أجل الأجيال القادمة ــ نضرة ومزدهرة...

    ولكن، وبمرور الوقت، تكشف مدى جور النظام الاقتصادي العالمي الذي أوصل سكان العالم إلى أن يعيشوا في وقت واحد الآتي: أولا: أقصى وضعية من اللامساواة عرفتها البشرية عبر تاريخها. ثانيا: أكبر عملية من النهب المُمنهج للثروات والموارد من قبل الشركات الضخمة المتعدية الجنسيات. ثالثا: أسوأ وضعية بيئية/بيولوجية أدت إلى اختلالات بيئية وصحية كارثية...إنه السياق، بحسب كثير من المصادر، الذي يمكن وصفه باللحظة التاريخية الأكثر بؤسا بفعل: الاستهلاك المفرط والانتهاك المستباح والانهاك المطرد لموارد وثروات ومزايا الطبيعة والبيئة.

    مما سبق، تولد الإدراك ونتج الاستدراك؛ بأن عملية تحويل العالم من خلال التنمية المستدامة يحتاج إلى مبادئ قيمية مرجعية حاكمة، ومعايير ميدانية ضابطة أو ما يمكن أن نطلق عليه ميثاق قيمي/أخلاقي/اجتماعي كوني تلتزم به الدول الأعضاء في المنظومة الدولية يؤمن ثلاثة مبادئ أساسية وذلك كما يلي: أولا: الالتزام السياسي العابر للحدود. ثانيا: الابتكار الاقتصادي الجماعي الذي يراعي الصالح العام. ثالثا: الشراكة المواطنية/الإنسانية العالمية...وهو ما أكدنا عليه في مقال الأسبوع الماضي المعنون: التعاون الدولي أو الفشل الأخلاقي الذريع؛ ما سيؤدي إلى إخفاق تنموي ومن ثم عدم الاستدامة...أو لنقل الرسوب في اختبار المسئولية التاريخية حيال ذواتنا وأرضنا وحياتنا المشتركة...

  في هذا الإطار، انشغل العالم في السنتين الأخيرتين بأمرين هما: أولا: كيف يمكن تأمين ميثاق اجتماعي كوني يوفر المرجعية القيمية الحاكمة والموجهة للتنمية المستدامة في الواقع العملي الميداني. وثانيا: إعداد مراجعة أكثر شمولا من المراجعات الدورية لمدى تحقق أهداف التنمية المستدامة، خاصة مع الجائحة الفيروسية وإشكالياتها الصحية القاسية والرأسمالية الجائرة بتداعياتها الاقتصادية الشرسة...ومن ثم صدرت كثير من الاجتهادات مؤخرا.

   ومن هذه الاجتهادات، هناك جهد سعدت بدعوتي للقيام به من قبل الشبكة العربية للمنظمات الأهلية لإعداد "مدونة عربية للتنمية المستدامة: قيمية وسلوكية ومهارية"؛ شاركتني فيه الباحثة الرصينة الدكتورة نادية رفعت، أظنها الأولى باللغة العربية، حاولنا من خلالها التأسيس:لمساهمة عربية معرفية وفكرية ومنهجية وعملية تجعل من التنمية المستدامة فعلا صحيحا ومؤثرا ومضافا إلى مجمل الجهود الحثيثة المُنشغل بها العالم الآن من أجل حماية الكوكب وتسليمه للأجيال القادمة في أوج نضارته: الاقتصادية، والاجتماعية، والبيئية والثقافية والسياسية. من خلال شراكة حية وفاعلة بين أطراف العملية التنموية المستدامة الأربعة: المواطنون، والمجتمع المدني والكيانات الاقتصادية، والدولة...أخذا في الاعتبار أنه لن يتسنى ذلك مالم يتوفر ما يلي: أولا: المسار التاريخي لتطور مفهوم التنمية ــ عموما ــ على مستوى الدول، والهيئات التنموية، والمؤسسات الدولية. كذلك تحولاته النوعية في ضوء التطورات المتلاحقة في النظامين الاقتصادي العالمي والدولي وأثرهما على النماذج التنموية المتبعة. ثانيا: تبني منظومة قيم حاكمة وداعمة للعملية التنموية ذات: الفعل المستدام، والأهداف المركبة/المتشابكة. والتي يكون من شأنها توجيه سلوكهم بما يضمن تبني المسارات الملائمة: التشريعية، والسياسية، والثقافية، والمواطنية، والاقتصادية، والبيئية، في ضوء المهارات الضرورية اللازمة. ثالثا: التوجه بكل ما سبق إلى أطراف الشراكة الأربعة وتحديد المطلوب منهم لتنفيذ عملية التنمية المستدامة من حيث: السلوكيات المطلوبة، والمهمات المنوط بهم تحقيقها، والمهارات التي يجب تعزيزها لدى كوادرهم. شريطة أن يتم العمل فيما بينهم بانسجام وتكامل. رابعا: إدراك معنى ومضمون التنمية المستدامة بأهدافها ال 17 المتشابكة والمتكاملة (تضم 170 غاية فرعية)، والتي تكون في المجمل ــ عند التنفيذ ــ مقاربة واعية شاملة لكل من: أولا: جودة الحياة المطلوبة بما تحتاجه من: قضاء على الفقر، وتأمين صحي جيد، وتعليم شامل، ومساواة. وثانيا: سلامة واستدامة البنية التحتية والموارد وذلك بإنهاء الجوع وتحسين الوضع الغذائي لسكان الكوكب، وإدارة مستدامة للمياه والصرف الصحي، وضمان طاقة بأسعار في متناول الجميع، وتكوين عمالة منتجة، وتوفر بنية تحتية، وتصنيع شامل. وثالثا: حماية البيئة والحفاظ على نضارتها من خلال: مكافحة تغير المناخ لتجنب الآثار السلبية الناجمة عن هذا التغير، وحماية المساحات والموارد البحرية، وحماية وتعزيز النظم الإيكولوجية للأراضي، ومكافحة التصحر، والانتصار للتنوع البيولوجي...إنها مهام كبرى وضعت بشكل متداخل ومترابط ولا يمكن أن تتحقق ما لم تتحقق معا...والمهم توفر القيم والسلوكيات اللازمة الضامنة لتحقيق أهداف عملية التنمية المستدامة...

    ولم تتوقف مبادرة إطلاق مدونة قيم وسلوك عربية للتنمية المستدامة عند هذا الحد...وإنما تبعتها تتمة مبتكرة دعمتها الشبكة العربية للمنظمات الأهلية وصدرت هذا الأسبوع قامت بها مؤسسة خطوة نحو المستقبل ما أطلقوا عليه: نموذج للتعلم التفاعلي (أو دليل تدريبي مركب) يتكون من ثلاثة أدلة تدريبية مترابطة تهدف لتكوين كادر قادر على أن يجعل المدونة العربية للتنمية المستدامة بما تتضمن من قيم وسلوك حقيقة وواقع...اعتمد النموذج على الوسائط التفاعلية التقنية الحديثة من أجل تمكين الكادر التنموي على التفكير المجتمعي المستدام والممارسة التنموية المستدامة في ضوء قيم وسلوكيات تتوافق مع الخير العام...إنه جهد يصب مع اجتهادات أخرى انطلقت مطلع هذا العالم تسعى من أجل التأسيس لمسارات تنموية جديدة...

 

 


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern