القوة, ماذا تعنى.. وما حدود استخدامها .. وهل لابد أن تكون ذات طابع عسكرى فقط.. وهل هناك أنواع أخرى من القوة غير القوة العسكرية..أسئلة كثيرة طرحها العقل الاستراتيجى الأمريكى بعد الحادى عشر من سبتمبر, عندما شعرت الولايات المتحدة الأمريكية بـأن القوة التى تميز بها دخولها إلى المسرح الدولى باتت فى خطر.
وهذه الإشكالية بالتحديد هى التى أثارها جوزيف ناى فى العام 2002 خلال كتابه مفارقة القوة الأمريكية, حيث طرح آنذاك “أن أساس القوة آخذ فى الابتعاد عن التأكيد على القوة العسكرية.. بسبب أن الأسلحة النووية مدمرة وفتاكة ومكلفة بحيث لايمكن استخدامها إلا فى الحالات القصوى, وبسبب أيضا تنامى الخصوصيات الثقافية الذاتيات القومية يجعل من الصعب السيطرة الكاملة عليها, ففى القرن التاسع عشر حكمت بريطانيا الهند بقوة استعمارية قليلة العدد مقارنة بتعداد الهند الضخم, أما اليوم فإنه من الصعب بمكان تكرار النموذج الاستعمارى التاريخى يضاف إلى ما سبق التغير الاجتماعى داخل القوى العظمى, فمجتمعات مابعد الثورة الصناعية راحت تركز على سياسة الرفاهية الاجتماعية لشعوبها, وتوسيع نطاق مصالحها الاقتصادية ومن ثم تولدت ثقافة لديها بنبذ استخدام القوة العسكرية إلا عند الضرورة القصوى.
وفى ضوء ذلك يقول ناى “أنه إذا أرادت الولايات المتحدة أن تظل قوية”, فعليها أن تهتم بالإضافة إلى القوتين العسكرية والاقتصادية اللتين يعدهما معا مثالين على القوة الصلبة Hard Power والتى يمكن استخدامها لإقناع الآخرين قسرا, بما أسماه “القوة الناعمة Soft Power”, أى جعل الآخرين “يريدون ماتريده أنت” بدون اللجوء إلى التهديد باستخدام القوة العسكرية أو العقوبات الاقتصادية, وتمارس القوة الناعمة من خلال التأثير على الآخرين بالثقافة والإعجاب بالقيم والنماذج التى يتم الترويج لها, وتقدين إغراءات متنوعة.
وفى إطار انشغال العقل الأمريكى الدائم بكيفية تأمين الولايات المتحدة من أى خطر, استمرارية فعالية القوة الأمريكية, ألا وهو فكرة النقد الذاتى الدائم وابتكار أفكار وآليات متجددة -على الرغم من أية ملاحظات حول ما خرج به التقرير- كون مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية CSIS أحد أهم المراكز البحثية الأمريكية لجنة فى العام 2006 باسم “القوة الذكية”Smart Power تحت إشراف جوزيف ناى وريتشارد أرميتاج ومعهم مجموعةمن أهم العقول الأمريكية, والتى أصدرت تقريرها الختامى منذ شهرين حيث أوصت الإدارة الأمريكية, والتى ستأتى للبيت الأبيض العام القادم, بغض النظر عمن سيفوز بأهمية العمل بما أسمته القوة الذكية. ويعد ما تضمنه التقرير مهما للغاية لأنه يشكل رؤية مستقبلية للمنهجية وللكيفية التى لابد من الاسترشاد بهما من أجل استمرارية الدور الأمريكى الكونى. يطرح هذا التقرير تعريفا للقوة الذكية خلاصته إنها “محصلة التكامل بين القوة العسكرية والقدرة الاقتصادية -أى القوة الصلبة – وبين قدرة أمريكا على التأثير من خلال وسائل الجذب المتنوعة -أى القوة الناعمة”, وبهذه القوة الذكية يمكن مواجهة التحديات الكونية المتزايدة. ويشير التقرير إلى ضرورة التركيز على خمسة محاور أساسية لجعل القوة الذكية فاعلة, وذلك كما يلى: إنعاش التحالفات والشركاء والمؤسسات التى تخدم مصالحنا وتعيننا لمواجهة تحديات القرن الواحد والعشرين.
– تنشيط الدور التنموى للسياسة الخارجية الأمريكية بما يمكنها من تلبية طموحات الناس حول العالم, على أن يتم التركيز على ملف الصحة العامة.
– استمالة الشعوب الأجنبية إلى صفنا من خلال ما يعرف بالدبلوماسية الشعبية, وذلك بوضع خطط طويلة الأمد لتوثيق العلاقات بين الشعب الأمريكى والشعوب الأخرى مع التركيز على فئة الشباب – الاستمرار فى دعم الاقتصاد العالمى من أجل الخير والنمو, وضمان امتداد مزايا التجارة الحرة للمهمشين سواء فى داخل الولايات المتحدة الأمريكية, أو خارجها – ضرورة أن تعمل أمريكا من واقع قيادتها العالمية على تأسيس إجماع كونى وتطوير حلول مبتكرة لمواجهة التغيرات المناخية وتأمين الطاقة ويذكر التقرير أن تنفيذ إستراتيجية القوة الذكية سيحتاج أولا إلى إعادة تقييم أداء الحكومة الأمريكية من حيث تنظيمها والتنسيق بين الأطراف المختلفة داخلها وميزانيتها العامة.
ولاحظ معى, عدد التحديات التى رصدها التقرير التى فى إمكانها إعاقة القوة الذكية. حيث رصد عشرة تحديات:
الأول ضعف القدرة على التناوب بين الجهات المختلفة على إعداد التخطيط الاستراتيجى الخاص بالقوة الذكية, والموازنة بين البرامج التى تصنف فى إعداد التخطيط الاستراتيجى الخاص بالقوة الذكية, والموازنة بين البرامج المطلوب تنفيذها والموارد المتاحة.
الثانى: غياب التكامل بين العديد من البرامج التى تصنف فى عداد القوة الناعمة مثل: المساعدات التنموية والإنسانية, والتبادل الثقافى والتعليمى, بحيث تصب كلها فيما يخدم السياسات الأمريكية.
الثالث: عدم الاستثمار الأمثل فى الكيانات ذات الطابع المدنى لتولى المهام المطلوبة.
الرابع: على الرغم من القدرة العالية لوزارة الدفاع والإدارات العسكرية المختلفة على التوظيف الأمثل للموارد فى أوقات الطوارئ والأزمات, فإن هناك حاجة إلى أن تستفيد الكيانات المدنية من هذه الخبرة لتكون مستعدة لأداء مهام كثيرة.
الخامس: تقليدية العمل الدبلوماسى والذى يجب أن يأخذ بوسائل جديدة تمكنه من جعل الدبلوماسية الشعبية أكثر فاعلية بالذهاب إلى أبعد من القنوات التقليدية للحصول على المعلومات وبدراسة الاحتياجات الحقيقية للقطاعات المتنوعة فى المجتمعات المختلفة.
السادس: أن التقدم فى مجال الاتصالات قد جعل من الممكن الاكتفاء بإدارة القوة الأمريكية من مركز القيادة فى واشنطن وإهمال وجود قيادات ميدانية قادرة على اتخاذ القرارات على أرض الواقع.
السابع: بالرغم من أن وزارة الدفاع قد قسمت العالم إلى مناطق إقليمية (أو مناطق حيوية وقد شرحنا ذلك بإسهاب فى كتابنا (الإمبراطورية الأمريكية), وسلمت كل منطقة إلى قائد ونظمت الأمور بشكل متميز, فإن هذا لم يحدث فى إطار المنظمات المدنية الأمريكية العاملة حول العالم, حيث تفتقد إلى هذه الهيكلية التنظيمية. الثامن: هو إلحاح التصدى لما هو آنى أصاب كل عمليات مراكز القيادة فى واشنطن. التاسع الحاجة إلى أن يتبنى كل من الكونجرس والسلطة التنفيذية فهما يمكن من تفعيل القوة الذكية لأمريكا, بدلا من ترصد كل جهة للأخرى. العاشر لأن كثيرا من الرصيد الخاص للقوة الناعمة يتم فى إطار القطاع الخاص, تبدو الحاجة ملحة إلى أن تقوم الحكومة بالتنسيق بين الجهات المختلفة.
بمواجهة هذه التحديات العشرة يمكن أن يكون للقوة الأمريكية الذكية دورها فى بقاء قيادة أمريكا للعالم.. ومن هنا تأتى أهمية هذا التقرير حيث إنه يقدم وصفة مستقبلية تتضمن كثيرا من التوجهات لكيفية التعاطى الأمريكى مع العالم, أتصور أن هناك أهمية لفهم ما جاء فى هذه الوصفة.. وفتح حوار جاد حولها ودراسة التداعيات التى يمكن أن تنجم من تفعيل هذا التقرير وفى الوقت نفسه كيف يمكن تعظيم الاستفادة منه.