250 أحلام فترة العزلة (12): بيتهوفن

(1)
«حياة الإنسان والعالم موسيقيا«

حلت في سنة الغلق الفيروسية ذكرى ميلاد الموسيقى الفذ «لودفيج فان بيتهوفن» (1770 ـ 1827). وقد أتاحت العزلة الاختيارية أن يعيش المرء حلما موسيقيا واعيا مع موسيقى وحياة «بيتهوفن» التي تشكل في مجموعها تجليا مركبا لحياة مبدعها الشخصية وللتحولات الجذرية التي كان يشهدها العالم خلال فترة

حياة بيتهوفن القصيرة. ففى إطار احتفاء العالم بذكرى ميلاد بيتهوفن الـ250، صدر مطلع هذا العام كتاب: «بيتهوفن: حياة في تسع مقطوعات موسيقية- 300 صفحة»، يروى فيه الكاتب قصة حياة «بيتهوفن» عبر تسع محطات بارزة عاشها. وأعطى كل محطة منها اسما وذلك كما يلى: أولا: النجاح، ثانيا: الأصدقاء، ثالثا: البطولة، رابعا: الطموح، خامسا: الحب، سادسا: الحرية، سابعا: الأسرة، ثامنا: الروح، تاسعا: النهايات... ومقابل كل محطة اختار قطعة موسيقية من إبداعات «بيتهوفن»، العديدة، لتعكس موضوع كل محطة... ويدهشك الكتاب في قدرة مؤلفه في كيف كانت إبداعات «بيتهوفن» تجسيدا بديعا لحياته- وظنى لحياة الكثيرين منا- من جهة وللسياق المجتمعى الأوروبى الذي كان يصارع من أجل التقدم... ومن ثم مثلت موسيقى «بيتهوفن» وعيا جديدا «طازجا» مؤثرا في نفوس ووجدان معاصريه... متجاوزا بموسيقاه دائرة الاستماع الأرستقراطية الضيقة إلى دوائر أوسع من طبقات المجتمع المتنوعة...

(2)

«بيتهوفن: من الجميل إلى الجليل...»

اعتبر المؤرخون «بيتهوفن» مثالا للموسيقى الذي لا يخضع للقيود، والذى لا يكتب للكنيسة، ولا لسيد يرعاه- كما كان موسيقيو العصور الوسطى يفعلون- ولم يكن يؤلف موسيقاه انصياعا لأوامر تُملى عليه، وإنما كان يؤلفها لأنه يريد ذلك، بحسب ما يقول «جوليوس بورتنوى» في «الفيلسوف وفن الموسيقى»، ترجمة فؤاد زكريا ــ 1974... ما نتج عنه إبداع موسيقى خالد يعكس حلم الإنسان بالتحرر من أي أسر: الحاجة/ الفقر والعاهة/ العجز.. وساعده على ذلك أن حياته قد توافقت «وعقرب التاريخ يتحرك، فيتحول العالم من عبودية القرون الوسطى إلى عهد الحرية، فكان في فنه مرآة لهذا التحول»،... فلقد «صب نفسا ثائرة» في إبداعاته الموسيقية (بحسب حسين فوزى في «الموسيقى السيمفونية»- 1987)، ما مكنه أن يصبح فاتحا للتجديد الموسيقى... ويتمثل هذا التجديد، كما يشير العلامة «بول هنرى لانج»، أستاذ الموسيقى بجامعة كولومبيا الأمريكية، إلى نقله الموسيقى من مرحلة الزخارف والجماليات الشكلية إلى مرحلة تعبر عن مكنون النفس الإنسانية من مشاعر وتجارب وخبرات وإدراك لطبيعة المرحلة التاريخية، التي تمر بها أوروبا آنذاك، أي نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، والتى اتسمت بشدة التحول... فجاءت موسيقاه نقلة من قديم «جميل» إلى جديد بديع «جليل» بحسب «لانج»... وحول أصالة وخلود موسيقى «بيتهوفن» قال الموسيقار «شومان»: «خذوا مائة من أشجار السنديان، التي عمرت مائة عام، واصنعوا منها حروفا بارزة لاسمه وضعوها فوق سهل فسيح. أو انحتوا له تمثالا كبير الحجم مماثلا له كتمثال القديس بوروميه أمام بحيرة ماجورى (بحيرة كبرى في شمال إيطاليا) حتى يستطيع أن يتطلع إلى الأعالى مثلما كان يفعل في حياته. وعندما تمر سفن «إلراين»، ويسأل الأغراب عن اسم هذا التمثال العملاق. سيجيبون: إنه بيتهوفن...ومفاد ما قاله «شومان» كيف تمرد «بيتهوفن» على ما قبله مؤسسا لتاريخ موسيقى جديد سيكون خالدا إلى يومنا هذا. وهو ما أكده المؤرخ الموسيقى «شامبينيول» بأن «بيتهوفن» قد «تخطى كل الحدود التقليدية وقلب كل الصور البنائية الكلاسيكية ليذهب بعيدا»، جدا، جدا، جدا... فصار تراثه الإبداعى الموسيقى ملهما، و«رائدا لكل اتجاهات التطور الموسيقى من بعده»، بحسب ما قال المايسترو «يوسف السيسى» في كتابه المُدهش: دعوة إلى الموسيقى (1981)...

(3)

«بيتهوفن المتجهم المتجدد»

كل ما سبق، وأكثر، استعاده الألمان والعالم من خلال الاحتفاء بـ «بيتهوفن- 250» هذا العام والذى سيمتد الاحتفاء به حتى نهاية العام القادم... وكانت فرصة أن نجدد دهشتنا ونعيش إبداعات هذا الموسيقى العبقرى ونعيد التأمل في سيرة هذا الموسيقى وما وراء تجهمه وعبوسه الدائم والتى كانت مادة ثرية لإنتاج ثلاثة أفلام سينمائية في 1994 و2002 و2006 على التوالى، عكست دراما فنان تألم وقاوم فتمرد وجدد... ونواصل أحلامنا الواعية.


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern