أحلام فترة العزلة... (6): «الحالم الواعى وعالمه»

«طقوس جديدة»

«الحالم الواعى»، هو من يتواصل بشكل جدلى مع العمليات الإبداعية المتنوعة بما تجسده من موضوعات لوقائع الزمان وأحداث المكان وأفعال الإنسان.. ومن مؤشرات صحة هذا الجدل أن تنتاب «الحالم الواعى» حالة مركبة من: أولا: الدهشة، وثانيا: التأمل، وثالثا: رسم مستقبل مغاير.. وبفعل العزلة من جهة، والتقدم المطرد للتقنيات التواصلية الرقمية من جهة أخرى، تغيرت كليا طقوس «دنيا الحلم الواعى» التى تتفاعل مع الإبداعات الفيلمية والنغمية والقلمية المدهشة والباعثة على التأمل والمُحرضة على التجديد والتقدم.. حيث تَخلْقَ عالما جديدا للحالم الواعى يختلف عن عالم الأنثروبولوجى الكبير «كلود ليفى شتراوس» (1908- 2009) والذى عبر عن تفاعله مع الإبداعات البشرية الفريدة والمتميزة من رسومات وموسيقيات ومدونات، وكشف مكانتها فى مسيرة المعرفة العقلية وبقائها خالدة حية فى الوجدان الإنسانى.. وذلك من خلال حياته المهنية الممتدة كأنثروبولوجى، التى كانت تحركه نحو أماكن الإبداع المتنوعة وفق الطقوس المتعارف عليها فى ارتياد المتاحف والكونسرتات لمشاهدة اللوحات والاستماع لألوان الموسيقى المختلفة والاستغراق فى القراءة بحسب ما جسد فى كتابه المضىء عن عمق جمال الإبداع وأثره: «النظرُ، السمعُ، القراءة- 1994)..

إنها الحالة التى فصلها «يحيى حقى» (1905 ـ 1992) فى كتابه الصغير البديع: «تعالَ معى إلى الكونسير»- حيث «الجميع يجلسون فى أماكنهم، الحركات والإيماءات والابتسامات المتبادلة ملفوفة بأدب مراسيمى مُحنط من عهد فرساى».. وكيف أن من يتأخر عن الموعد «الكونسير» «جزاؤه التأفف».. ففى دنيا العزلة- المكانية- الموصولة بالعالم عبر الأجهزة الرقمية والسلكيات واللاسلكيات تتشكل طقوس جديدة يستنها كل مرء بما يضمن له الاستغراق الممتع فى الأحلام الواعية.. طقوس لا تتقيد بزمن، أو بكيفية متابعة معينة أو بأى قواعد سنها كهنة الثقافة والإبداع والفنون عبر التاريخ.. وكيف لا وقد اختلفت- جذريا- «طرق الرؤية»، إذا ما استعرنا تعبير المؤرخ والناقد الفنى والسيناريست والرسام والصحفى والشاعر «جون برجر» (1926- 2017).

(2)

«عالم الحالم الواعى: انعزال مُنتج»

فى هذا السياق، يصبح للحالم الواعى «عالمه» الذى يستمد منه الكثير من القدرة على الإبداع إذا ما كان مبدعا.. والقدرة على مواجهة الحياة إذا ما كان إنسانا/ مواطنا فاعلا ومتمسكا بحب الحياة واستدامتها أى مدركا لمكانته كإنسان وأهميته كمواطن.. ويؤكد لنا الأديب والناقد الإنجليزى «تشارلس مورجان» (1894- 1958) فى كتابه «الكاتب وعالمه ــ 1960» (ترجمة الناقد الكبير شكرى عياد، 1921- 1999) كيف أن «جواهر الناس انعزالية لا اجتماعية وما يكونه المرء، يكونه وحده- وحرية الاتصال، والدخول فى معامل أناس آخرين- تمكنه من أن يقبل بشجاعة وحدانية إنسانية»، ومن ثم يعيش الحالم الواعى عالما خاصا يمكنه من الحلم الواعى/ الأحلام الواعية تدفعه إلى: الدهشة والإلهام والمغامرة.. فلا تعيد أى حالم واعٍ «للفارس القديم»، بحسب صلاح عبدالصبور (1930- 1980)، فقط، وإنما تجدد الفروسية داخله وتؤهله لمواجهة العالم الجديد وتحولاته «الطفرية» (إن جازت المُفردة).. فروسية «فارس النور» (إذا ما استعدنا أفكار الأديب العالمى باولو كويلهو والذى يعتبرها دليل المحارب لفارس النور) الذى يحرضه قلبه «على أن يتجاوز كل ما مر به» ويتطلع إلى المستقبل.. وهو أمر لا يستقيم ما لم يخلق البيئة الحاضنة للأحلام الواعية بما تحمل من دهشة وتأمل وفعل.. إنها، بحسب «تشارلز مورجان»، «الحد الفاصل بين انعزال منتج وسجن عقيم».

(3)

«نحو تأسيس جديد»

إن أحلام فترة العزلة، فى ظل الانعزال المُنتج، تقودنا إلى التجديد وإحداث الفرق والتمرد على المألوف، والانفتاح على الجديد، ورفض سجالات «الغلوشة»، والانزلاق فى نقاش القضايا الغاشة.. فمن خلال التفاعل، فى فترة العزلة، مع إبداعات الأقلام والأنغام والأفلام المتنوعة يمكن أن نؤسس فى الواقع لعالم جديد يحمل- كما كان يقول شباب 1968- قيما غير «مقتبسة» وأبنية وممارسات أكثر عدالة وإنسانية.. بهذا المعنى تصبح فترة العزلة- بحسب شاعر الكوميديا الإلهية «دانتى» (القرن الـ14)- أشبه بمن: «يخرج من جديد» حاملا الأمل ومعاودا العمل من أجل هذه المهمة التأسيسية الكبيرة.. ونواصل أحلام فترة العزلة.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern