’’لقد مثلت حرب أكتوبر 1973 نقطة تحول كبيرة في طبيعة النظام الاقتصادي العالمي...تذكروا هذا العام جيدا وأثره في إحداث الكثير من التحولات العالمية ردا على ما حملته أكتوبر عبر أبطالها من جنود من دلالات رمزية تاريخية‘‘...
عبارة قلتها في إحدى الندوات، ذات مرة، منذ سنوات...عقب علي بعض الحاضرين تقصد: "في مساري النظام السياسي: الإقليمي والدولي"...قلت: صحيح ما تقولون ولكن آثار حرب أكتوبر تجاوزت هذا الأمر بكثير...كيف؟
بداية، كتمهيد، لابد من تذكر ما كتبه العالم الوطني الكبير "جمال حمدان" في كتابه: "6 أكتوبر في الاستراتيجية العالمية"، بأن حرب أكتوبر قد جعلت "عرب أكتوبر كقوة عظمى...في عالم ما بعد الوفاق"(هو المبدأ الاستراتيجي المزعوم بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي الذي شاع في عقد السبعينيات من القرن الماضي)...وقد وثق "حمدان" مقولته في ضوء ما تضمنه التقرير السنوي لمعهد الدراسات الاستراتيجية بلندن من نص ــ بحسب وصف "حمدان" ــ صيغ بموضوعية وقطعية يقول: "إن حرب أكتوبر، بسلاحيها العسكري والبترول، قد جعلت من العرب قوة سادسة في العالم بعد أمريكا وروسيا والصين واليابان وكتلة أوروبا الغربية"...ذكر "حمدان" هذا النص وكتب معلقا أن هذا ما أثبتته حرب أكتوبر عمليا عندما وظفوا ما يملكون من "كل خامات القوة الكبرى" من: "دخول بترولية مليارية إلى جانب انتاجه الزراعي، والصناعي يعد الآن من أغنى أقاليم العالم الجغرافية والسياسية في مستوى الدخل القومي ووفرة رأس المال وإمكانيات التصنيع والاستثمار،...،إلخ"، لصالح حرب أكتوبر...ما "رفع ثقة مصر بنفسها وبقدراتها الذاتية وقدرات الأمة العربية كلها"...فلأول مرة استخدم العرب مواردهم، خاصة سلاح البترول، في دعم الحرب والمسار السياسي لاحقا، عن طريق مضاعفة أسعار البترول ثلاث مرات في تعزيز سيطرتهم على النظام النقدي في العالم"...ما استنفر الكثير من الأطراف الغربية التي أدركت أنها لحظة تاريخية يكاد الغرب ــ بحسب المفكر الكبير أنور عبد الملك في كتابه: "ريح الشرق" ــ "يفقد فيها زمام المبادرة التاريخية"...أو بحسب "مدرسة التبعية": "يفقد فيها السيطرة على الدول الأطراف المربوطة بدول المركز الغربية من خلال علاقة تبعية قسرية يتم فيها امتصاص مقدرات الدول الأطراف بآليات مُمنهجة ومنتظمة...ونشرح لاحقا الكيفية التي سار فيها الصراع بين دول الجنوب والغرب عقب حرب أكتوبر...
لقد تجاوز أثر التحرك العسكري الميداني "الأكتوبري" ومن خلفه سلاح البترول العربي بسياساته الصارمة ميدان المعركة إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير...تجلى هذا الأثر في وضع "نمط تنظيم الاقتصاد الغربي نفسه ــ أي نمط السعي المُطرد إلى زيادة الانتاج ومضاعفة الاستهلاك، وخاصة استهلاك الكماليات باسم مجتمع الرفاهية،... ــ في موضع الشك، والتساؤل، بل والاتهام"؛ والأهم التهديد الاقتصادي الحقيقي للغرب الأوروبي الذي اقتنص الهيمنة على عديد الدول من شتى القارات منذ القرن الخامس عشر، زمن الكشوفات الجغرافية أو النهب الاستعماري لثروات العالم. والذي لحقت به الولايات المتحدة الأمريكية من خلال التوسع الامبراطوري الممتد خارجها عقب الحرب العالمية الاولى...
لقد قامت حرب أكتوبر في إطار دولي لم يكن في أحسن حالاته يتسم بالآتي:
أولا: تراجع رأسمالي اقتصادي عالمي تجلى في عدة أمور منها: الانكماش المتزايد الملحوظ في استثمارات الاقتصادات الغربية منذ مطلع السبعينيات. ما أدى أن يصبح الدولار الأمريكي غير قابل للتحويل إلى ذهب، مما أدى إلى زعزعة النظام النقدي والمالي الذي أنشأته اتفاقيات "بريتون وودز". كذلك الأزمة العميقة في الانتاج الغذائي في كثير من بلدان العالم الثالث. وقد استمرت الأزمة متفاقمة حتى أعلن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية(الأونكتاد) فشل النظام الاقتصادي العالمي (الرأسمالي الغربي بالأساس) وعدم قدرته على تحقيق العدل بين الشمال والجنوب أو بين الأغنياء والفقراء أو بين العالم الأول وما دونه. وذلك نهاية 1973...
ثانيا: حرب باردة ــ بل شديدة البرودة ــ بين قطبي العالم ــ آنذاك ــ الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية من خلال حرب مخابراتية "كواليسية" ضروس من جهة. وحروب إقليمية متعددة في شتى ربوع العالم(الهند وباكستان، المسألة الفيتنامية المُحتدمة، حروب القبائل الإفريقية، حروب بين بعض الدول اللاتينية،..،إلخ،)...
في هذا السياق، حرب أكتوبر ومن خلفه سلاح النفط الذي خلخل النظام النقدي العالمي، بدأ ما أشرنا له عاليه حول الكيفية التي تجرأت فيها دول الجنوب على المنظومة الاقتصادية الغربية السائدة. فبدأت، مع نهاية 1973، بالضغط من أجل تصويب النظام الاقتصادي العالمي السائد الذي تكشف أنه لم يحقق لهم إلا المعاناة. ومن هنا بدأت موجة جنوبية تحمل المطالبة بنظام اقتصادي عالمي أكثر عدلا (وهو ما تم اقراره، بالفعل، في الدورة السادسة الخاصة للجمعية العامة للأمم المتحدة في إعلان رسمي مقدم من دول العالم الثالث. وذلك في مايو 1974)...ولم يقف الأمر عند هذا الحد، وإنما تجاوزه إلى مناقشة ملامح هذا النظام الذي يجب ان يكون متحررا من الهيمنة، ومُحققا للمساواة والإنصاف بين مواطني الجنوب والشمال. وامتد النقاش إلى تفاصيل من عينة ما يلي: تأمين أسعار عادلة للسلع الأولية، ضمان حق البلدان النامية في الموارد المشاع، القبول الدولي بممارسة دول الجنوب لاستراتيجيات تعتقهم من التبعية وتفك ارتباطهم بمراكز الهيمنة الاقتصادية في ضوء استراتيجيات وطنية ذاتية، نقل التكنولوجية من أجل التصنيع الوطني،...،إلخ. وتوالت جهود المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة والجنوبية مثل: الأونكتاد، ومؤتمر البلدان غير المنحازة، والمؤتمر العالمي للأغذية، ومؤتمر مكتب العمل الدولي،...،إلخ...في تقديم الاقتراحات المتنوعة بما يضمن بلوغ نظام اقتصادي عالمي عادل...
الخلاصة، مثلت حرب أكتوبر، في جانب منها، إضافة إلى بعديها العسكري والسياسي: الإقليمي والدولي، قوة دافعة وملهمة ومستقلة لدول الجنوب للتمرد على نظام اقتصادي عالمي جائر...