أحلام فترة العزلة

(1) الحلم حقيقة

الحلم الذى نتحدث عنه ليس هو حلم النوم بتعقيداته المختلفة المعروفة فى الأدبيات الفرويدية. وليس هو حلم اليقظة المغترب عن الوعى حيث يحلم المرء بمعزل عن إمكانياته وواقعه وظروفه الموضوعية.. إن حلمنا هنا ــ الذى أتاحته فترة العزلة ــ هو «الحلم الواعى»؛

الناتج عن جدل ــ غاية فى التعقيد ــ بين وقائع الزمان وأحداث المكان التى يختبرها المرء عبر حياته وبين القدرة على التعاطى المبدع لهذه الوقائع وتلك الأحداث من خلال عملية مركبة قوامها: التأمل الحر الدافع للفعل المبتكر.. وفى هذه الحالة يكون موضوع الحلم فى حالة: «الحلم الواعى»؛ ما يلى: أولا: القضايا الكبرى التى تتجاوز «الأنا» الشخصية، وثانيا: الإشكاليات الحياتية التى تمس الآخرين، وثالثا: التحديات التى تواجه الواقع،...وعليه يصبح الحلم ــ إضافة لكونه حلما واعيا ــ حلما يعبر عن مسؤولية حيال القضايا والإشكاليات والتحديات التى تواجه الذات والواقع والمجتمع.. بهذا المعنى يمكن اعتبار أحلام نجيب محفوظ فى فترة النقاهة ــ سواء كانت أحلاما، حقيقية، بالفعل، أو أدبية- أحلاما تشتبك مع الفكر والواقع والمجتمع والمستقبل.. إن الحلم الواعى يستمد مضمونه من الحقيقة التى تتبلور من محصلة وقائع الزمان وأحداث المكان. وفى نفس الوقت ينشغل ــ الحلم الواعى ــ بالاشتباك الفطن مع الحقيقة أو بالأحرى مع وقائع الزمان وأحداث المكان بغية وضعية أفضل يصل إليها المجتمع من خلال عملية إبداعية لا تتشكل إلا من خلال الحلم.. وليس أفضل من الشعراء لوصف ما سبق كما يلى:

يقول لورد بايرون: البقاء وحيدا والحلم؛ متكئا على الهوى عند الشلالات المزبدة، هو حديث عذب مع الطبيعة... ويضيف والت ويتمان: إنها ــ كما فى الحلم ــ تتغير وتمتلئ سراعا...

(2) دهشة وتأمل وتصور مستقبلى

إذن، العزلة باعتبارها عالما مستقلا للمرء يتحرك فيه بحرية وأمان. ومن ثم تتوفر مساحة «للحديث العذب»: أى التأمل والتفكير فى الطبيعة والتفاعل معها. ما يؤدى، فى النهاية، إلى الدفع بعمليتى التجديد والتغيير.. هكذا تكون طبيعة أحلام فترة العزلة.. حيث تتسم بتوفر ثلاثة استجابات شعورية وعقلية متداخلة كما يلى:

أولا: «الدهشة» حيث ينخطف العقل انبهارا بمدى الحسن والدقة والجمال أو انزعاجا بسبب الاختلال والفوضى والقبح. ويشار إلى أنه فى اللحظة التى نمارس فيها «الدهشة» إنما يعنى ذلك أننا تحررنا من آراء السابقين علينا. وقدرتنا على ممارسة الرفض لمحاولات التزويق أو التشويه التى تمارس من أجل التسويق والترويج لصور منافية للحقيقة ومتحيزة ضدها ووفق ما بات معروفا الآن فى عالمنا «بما بعد الحقيقة».. وتؤدى «الدهشة» إلى:

ثانيا: «التأمل والتفكير» فى مواطن الجمال والكمال والنجاح أو مواضع القبح والنقص والإخفاق على السواء.. إنها عملية الفهم العقلى الدقيق للأسباب والظروف والمسارات التى ساهمت فى تشكيل الواقع إيجابا أو سلبا.. ما يمكن.

ثالثا: بتصور رؤى أفضل للواقع الذى «أدهشتنا» استقامته أو اعوجاجه، فجعلنا «نتأمل ونفكر فيه»، ومن ثم تطويره وتجديده.

(3) الحلم واختراع العزلة

إن أحلام فترة العزلة؛ التى فرضت علينا بسبب «الجائحة الفيروسية» هى التى جعلتنا نعيد النظر إليها بأنها ليست مفروضة قسرا علينا وإنما نحن الذين اخترعناها (إذا ما استعرنا عنوان عمل بول أوستر اختراع العزلة ــ راجع مقالنا الذى حمل هذا العنوان فى إبريل الماضى) من أجل «الانتباه» لذواتنا، وواقعنا، وسياقاتنا الاجتماعية، وللطبيعة، والحياة،...،إلخ، وذلك بأن نحلم أحلاما واعية فى فترة العزلة بإعادة بناء ذواتنا بالتفاعل مع نتاجات العمليات الإبداعية الحقيقية من أفلام وأقلام ومحصلة أنغام.. وإعمال الدهشة والتأمل والتصور فى مضمونها.. ما يكسب أحلامنا درجة من الوعى قوامها: التذوق، والبحث عن معنى، وإدراك السبب/الأسباب، وإيجاد الدور، ورسم تصورات مستقبلية،...،إلخ...أو بحسب الشاعر الفرنسى السريالى «بول إيلوار» (1895 ـ 1952) بتصرف: إنه الحلم الواعى، الحلم لماذا، وبماذا، الحلم من أجل الديمومة التقدمية بالكائن الإنسانى والإنسانية، والحلم بدفع الواقع/العالم لتحولات مستدامة.


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern