لا.. لا يوجد خطأ في العنوان, فموضوع هذا المقال, بالفعل, يتناول مستقبل المواطنة في بريطانيا. فقد انشغل البريطانيون بموضوع المواطنة علي مدي عام2006 وحتي مطلع2007, ولأننا انشغلنا في مصر بجدل حول مبدأ المواطنة في التعديلات الدستورية, خلال الأشهر الماضية, والذي تم إقراره بالفعل, رأيت أنه ربما يكون من المفيد الإطلاع علي الخبرة البريطانية في كيفية تناول هذه القضية الحيوية وأسباب الاهتمام بها والمنهجية المتبعة والنتائج التي توصلوا إليها, وكيف يمكن أن نستفيد من هذه الخبرة عمليا في تفعيل المواطنة علي أرض الواقع.
اجتمعت في بريطانيا مجموعة من المراكز البحثية والمؤسسات المدنية التي تعمل في مجالي التطور الديمقراطي والمجتمع المدني في اطار مشروع وطني موضوعه مستقبل المواطنة في العشرين عاما المقبلة أي في2026, حيث قدموا تقريرهم الختامي للمشروع في نهاية فبراير الماضي(الذي اعلن عنه أخيرا) للجنة قومية معنية بالشئون الدستورية. وتقول القراءة العامة للتقرير إنه حمل الكثير من الأفكار الثمينة, وتناول المواطنة تناولا دقيقا علي المستويين المفهومي والعملي, كما عكس التقرير كيف أسفرت نقاشات عام كامل عن بلورة رؤية عميقة لمستقبل المواطنة في بريطانيا تكون محل إجماع لتهيئة كل ما من شأنه توفير سياق مجتمعي لتعظيم مواطنيه في أفضل صورها.. كيف؟
بداية, يمكن القول إن هناك عددا من الدوافع تم رصدها تجمعت معا للاهتمام بهذه القضية لما سوف تحدثه من آثار, منها, أولا: لوحظ ان هناك تغيرات مركبة طالت السلوك التصويتي للمواطنين وهو ما سيكون له أثر علي العملية الديمقراطية, ثانيا: هناك من العوامل المستجدة التي دفعت إلي تبلور اتجاهات ومواقف مختلفة من أطراف عديدة مثل السلطة والأحزاب كذلك قضايا كثيرة مثل الضرائب والخدمة المدنية والهجرة والبيئة والمجتمع سوف تؤثر علي الاندماج الاجتماعي والسياسيInclusion,.. الخ. ثالثا: التزايد الكمي للأجيال الشابة( من واقع دراسة سكانية دقيقة) والتي أصبح لها منظومة ثقافية اجتماعية مغايرة لجيل الكبار الأمر الذي سيكون له انعكاس علي مدي تفاعلهم مع القضايا السياسية والشأن العام كذلك ارتباطهم بالمجتمع…, انطلاقا من هذه الدوافع تم تحديد الأسئلة الرئيسية للبحث.
انطلق البحث من سؤالين أساسيين هما, الأول: كيف سيتم التعبير عن المواطنة في المملكة المتحدة علي مدي العشرين عاما المقبلة(2006 ـ2026) من حيث الأفكار المجتمعية عنها, وممارسة الناس لها؟, الثاني: ما الذي سيترتب علي ماسبق من تغيرات محتملة في تحديد السياسات المطلوبة؟ ويؤكد التقرير أنه ينطلق من تعريف للمواطنة ينظر إليها باعتبارها دائمة التغير, أي ان المواطنة ليست مفهوما ساكنا أو قيمة معنوية تتأسس مرة واحدة وإلي الابد أو تتحقق بقرار, وإنما هي ممارسة حية للناس علي أرض الواقع, فبمقدار ما يتحركون نحو تحقيق الأفضل واكتساب الحقوق بمقدار ما تكون هناك مواطنة ومن ثم تتطور, والعكس صحيح. كما يأخذ التقرير ببعدين للمواطنة, البعد الأول: هو المواطنة الأفقيةHorizontalCitzenship: ويقصد بها العلاقة بين المواطن وشريكه المواطن والتي تتحقق من خلال تبني القيم المشتركة والعمل معا في إطار المجتمع المدني وعليه يحدث التكامل بين الجميع بغض النظر عن الاختلاف, البعد الثاني: هو المواطنة الرأسيةVerticalCitizenship والتي تعبر عن العلاقة المؤسسية بين المواطنين والدولة من خلال النظام العام والمؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية وما يترتب علي ذلك من حقوق وواجبات وخدمات وعقوبات وحماية وأمن…
في ضوء ما سبق, وعبر مراحل البحث العلمي المتعارف عليها( مراجعة الدراسات ذات الصلة, ووضع تعريفات إجرائية, وورش عمل…) تم تحديد50 محددا سوف تؤثر علي المواطنة في المملكة المتحدة علي مدي العشرين عاما المقبلة من هذه المحددات ـ علي سبيل المثال لا الحصر ـ ما يلي: تزايد اللامساواة الاجتماعية, تنامي الاستقطاب والانقسام الاجتماعي, التوقعات المتزايدة لتوفير الخدمات الأساسية, الهويات المتحولة ومستقبل الهوية البريطانيةBritishness, عولمة الأسواق, الأداء الاقتصادي, التحول من المسئولية الاجتماعية إلي المسئولية الذاتية, التغير الاجتماعي المطرد, ثقافة الاستهلاك, انخفاض الثقة بالمؤسسات, الحركات الراديكالية السياسية,… الخ.
رصد التقرير سببين مؤثرين في تفعيل المواطنة ومدي فاعلية وانفتاح المواطن علي الدوائر التي يتحرك فيها أو انكفائه وذلك كما يلي: الأول: ويتعلق بمدي توافر الموارد الاقتصادية اللازمة لمنع اللامساواة الاقتصادية والاجتماعية وهو ما يعني أن يتحسن الأداء الاقتصادي للمملكة المتحدة ومن ثم تتوافر بيئة ملائمة للمواطنة جامعة للمهمشين وللطبقات الدنيا وللأقليات مع أقرانهم من الموسرين, لان النمو الاقتصادي البطيء والغلاء يعني التعرض لخطر اللامساواة الاقتصادية والاجتماعية وعليه تغيب المواطنة حيث يتعمق الاستبعادExclusion الاجتماعي والسياسي. السبب الثاني: ويتعلق بوضعية المواطن من حيث طبيعة ارتباطه, فهناك مواطن متفاعل وداعم لهذا التفاعل فيشارك مع الآخرين علي النقيض من افراد ينحون نحو الفردية أكثر فأكثر فلا يبالون إلا بشأن الخاص وغير معنيين بالمشاركة العامة, وقليلو الثقة بالحكومة, فهم مواطنون منكفئون.
وبتطبيق منهج السيناريوهات المستقبلية نتجت أربعة سيناريوهات, ومن خلال فهم وجهة نظر كل من الحكومة والمواطنين في الاتجاهات التي يجب أن يؤخذ بها( في ضوء هذه السيناريوهات) لتعظيم المواطنة التي تحقق الاندماج والمساواة ومن ثم المواطنة ببعديها الأفقي والرأسي( كما أسلفنا) التي جوهرها مواطن فاعل ونشيط, تم التوصية بما يلي: دعم التعليم علي المواطنة من خلال مناهج تم إعدادها بشكل علمي دقيق, تحقيق الاندماج التام لغير المندمجين من ذوي الدخول الصغيرة والفئات المهمشة والمهاجرين, استعادة المنكفئين علي أنفسهم من خلال حزمة من السياسات الاقتصادية كي ينخرطوا في بنية المجتمع بتعظيم استفادتهم من الخدمات العامة, المساواة في الفرص بين الجميع بالقوانين الملزمة والسياسات الداعمة, الحرص علي تحقيق العدل بين كل المواطنين… بالطبع هناك الكثير من التفاصيل الخاصة بالتوصيات العملية التي لا يتسع المجال لذكرها, بيد ان هذ البحث, ولا شك, يمكن أن يكون معينا لنا في تفعيل المواطنة عمليا وقد تم إقرار مبدأ المواطنة دستوريا. وفي نفس الوقت تقول لنا هذه الخبرة أن انجلترا البلد الديمقراطي العريق وبلد مارشال أول من قدم اجتهادات نظرية عن المواطنة بعد الحرب العالمية الثانية( عرفنا القارئ العربي به في كتابنا المواطنة والتغيير), نجدها دائمة التفكير في تفعيل المواطنة وكيف تجعل المواطن فاعلا في مجتمعه, وذلك بالتفكير في مستقبل المواطنة لعشرين عاما مقبلة.