في ضوء المتابعة الدورية لإبداعات العقل الإنساني على مدى سنوات. يمكن القول أن عام 2019 قد اتسم بزخم فكري مركب جدير بالانتباه والدراسة...
يتناول هذا الزخم الكثير من الأمور منها: أولا: ما يتعلق بما يجري على الأرض من "حراكات ممتدة ومنتشرة في كل بقاع العالم.
وهي التي أطلقت عليها "الحراكات المواطنية القاعدية" غير المسبوقة في التاريخ الإنساني. وتناولها من مقاربات ومناهج متنوعة مثل: الحركات الاجتماعية، الاحتجاج، الشعبوية، التمرد والرفض، الثورة،...إلخ. ثانيا: أزمة الرأسمالية ومستقبلها. ثالثا: إعادة النظر في الكثير من الموضوعات في ضوء الكثير من المستجدات مثل: العقد الاجتماعي، الديمقراطية التمثيلية، مفهوم العمل، دولة الرفاه، إشكالية اللامساواة المتنامية، التحولات التي طرأت على شباب الألفية الجديدة، التحولات التي تطرأ على المدينة في القرن ال21،...،إلخ. رابعا: الاقتصاد الرقمي بإيجابياته وسلبياته، وما يثير من إشكاليات متعددة الزوايا من حيث أثر الرقمنة على الأبعاد المختلفة لإنسان/مواطن اليوم. خامسا: قضايا البيئة بأبعادها المتنوعة. سادسا: إعادة النظر في الكثير من المفاهيم والتجارب والشخصيات، وقد تراوحت بين النقد الحاد والمراجعة الجذرية وبين إعادة الاعتبار والالتفات. وفي هذا المقام نشير إلى مساهمات فكرية ــ عديدة ــ أعادت النظر بشدة للنيوليبرالية الجديدة. كذلك التجربة البرازيلية مثلا. وفي المقابل استعادة رؤى لمفكرين متنوعين مثل حنة أرندت وأورويل لمقاربة الواقع. وسادسا: مستقبل الطبقات الاجتماعية وخاصة الوسطى مع دخول العالم إلى ما بات يعرف بزمن الثورة الصناعية الرابعة.
في سياق هذا الزخم، نلقي الضوء بشكل رئيسي على كتابين ــ في غاية الأهمية ــ للبروفيسور النرويجي جون ــ أريد جوهانسين صدرا في عام 2019 عن أحد أهم دور النشر العالمية هي روتلدج البريطانية. عنوان الكتاب الأول: "أتمتة، رأسمالية، ونهاية الطبقة الوسطى". أما الكتاب الثاني فعنوانه: "مكان العمل في المستقبل: الثورة الصناعية الرابعة، وطبقة البريكاريات(طبقة المنبوذين وهي ترجمة مقترحة منا) وموت التراتبيات الهرمية". وهما كتابان صغيران جدا ولكنهما يتضمنا أفكارا ألمعية مدهشة.
بداية ينطلق من موافقته على أن البشرية تعيش ما يعرف "بالثورة الصناعية الرابعة" وهي بحسب "كلاوس شواب"، مؤسس المنتدى الاقتصادي العالمي في التقرير الذي قدمه للمنتدى المعروف "بدافوس" في 2016، "بأنها ثورة التقنيات الدقيقة الحديثة والأتمتة Automation ، التي ستمتد إلى مجالات غاية في التقدم والدقة مثل: التكنولوجيا الحيوية، والهندسة الوراثية، والذكاء الاصطناعي"...
وسوف تؤدي "الأتمتة" بشكل مباشر وواضح إلى الاعتماد على الآلة لا الإنسان في انجاز كل شيء. ما يعني أن ما يقرب من 40% من العمالة الحالية. ولا يتوقف المؤلف عند هذه الحقيقة وإنما يعرض أيضا إلى ما ستحدثه "الأتمتة" في صميم البنية الاقتصادية ــ الاجتماعية من تحولات جذرية فيما يلي: أولا: طبيعة ونوعية وحركية العلاقات الاقتصادية والاجتماعية. ثانيا: موازين القوى المجتمعية. ثالثا: التركيب الطبقي للجسم الاجتماعي المتوقع تشكله: العناصر الفاعلة والحاضرة فيه. والعناصر التي ستغيب وتُقصى. رابعا: تشكل تحالفات محلية ودولية عابرة للحدود من نوع جديد...كيف؟
بداية، ينطلق المؤلف من أطروحة له سبق أن نشرها في عام 2016 تقول بأن "الاختراعات تدفع بالازدهار الاقتصادي". ولكنه ازدهار يكون في خدمة القلة ويؤدي بالضرورة إلى أزمة اقتصادية طاحنة للأغلبية. ويؤصل لهذه المقولة منذ القرن الثالث الميلادي وإلى يومنا هذا. حيث يتتبع التقدم التكنولوجي الذي جرى في أوروبا وأثره على الحالة الاقتصادية للعالم عبر العصور. وكيف الازدهار التقني/التقدم التكنولوجي إلى انتكاسة اقتصادية حادة تكون لها تداعيات على الطبقات الدنيا...وتدليلا على مقولته يرصد لنا خمسة مراحل تاريخية من التقدم التكنولوجي التي أعقبتها أزمات اقتصادية ــ نذكر عناوينها ــ وذلك كما يلي:
أولا: مرحلة الأزمة الطويلة في القرن الثالث، وثانيا: أزمة التيوليب في 1637، وثالثا: أزمة "فقاعات" الشركات الاقتصادية الاستعمارية العابرة للبحار في مطلع القرن الثامن عشر، ورابعا: مرحلة الكساد الطويل في الربع الأخير من القرن الثامن عشر، وخامسا: مرحلة الكساد العظيم ــ الشهيرة ــ في ثلاثينيات القرن الماضي، وسادسا: مرحلة الركود الطويل الممتد منذ الأزمة الأكثر كارثية ــ تاريخيا ــ التي بدأت في 2008 وممتدة حتى الآن.
وها نحن نعيش مرحلة ابتكار جديد تقوم على "الأتمتة" التي سوف يواكبها انتعاش محدود سيواجه العالم في إطاره، ليس فقط، ببطالة جسيمة. وإنما بتحولات عميقة في سوق العمل وفي البنية الطبقية للجسم الاجتماعي...ونوجز أهم هذه التحولات في الآتي: الملمح الأول: كيف أن الاعتماد على "الروبوتات" أو "الهياكل الآلية المتحركة"، إضافة إلى اعتماد الذكاء الاصطناعي في كثير من المجالات سوف يحدث فوضى شديدة في سوق العمل. ثانيا: اتساع الفجوة بين عمالة قطاع "الأتمتة" وبين العمالة التقليدية الميكانيكية واليدوية أو غير مدربة على الدخول إلى عالم الثورة الصناعية الرابعة. وهو تقسيم سوف يخلق نخبة عاملة عالية المهارات التقنية تابعة للوردات اقتصاد الثورة الصناعية الرابعة. وأغلبية من العمالة الفقيرة. ثالثا: التعجيل بالإنهاء على الطبقة الوسطى التي رويدا رويدا سوف تتراوح بين قلة من شرائحها تحاول مواكبة الزمن الجديد. وأغلبية سوف تنزلق إلى أسفل الجسم الاجتماعي بنسبة لا تقل عن 35%. وبالنتيجة تنامي طبقة "البريكاريات" أو المنبوذين الذين سوف يجدون أنفسهم خارج سوق العمل بنسبة لا تقل عن 15%...والأخطر إحداث تغير بنيوي في بنية العملية الانتاجية نقدم في مقالنا الأسبوع القادم تفصيلا له...