مستقبل اليورو؛ هي القضية الأهم التي يدور الجدل حولها الآن في الدوائر الاقتصادية، والأكاديمية، والسياسية الأوروبية الآن...فالإخفاقات التي طالت منظومة اليورو خطيرة. كما أن التراجع عن هذه المنظومة يعد كارثيا. وفي الحالتين سوف تؤدي تداعيات الإخفاق والتراجع، على السواء، إلى إيذاء ليس أوروبا فحسب وإنما "بقية أرجاء العالم"...ويتمحور هذا الجدل حول سؤال مركب هو: "ماذا بعد الركود والكساد واللامساواة؟"
ويجيب الاقتصادي البارز الحاصل على نوبل عام 2001، "جوزيف ستيجليتز"، من خلال مؤلفه "اليورو: كيف تهدد العملة الموحدة مستقبل أوروبا"،(الصادر في جزءين عن سلسلة عالم المعرفة في سبتمبر وأكتوبر الماضيين، في 450 صفحة) ـــ ترجمة الاقتصادي المصري المتميز الأستاذ مجدي صبحي الخبير بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام ـــ بقوله: "بأنه يمكن إنقاذ اليورو، وأنه يجب إنقاذه، ولكن يجب إنقاذه بطريقة تؤدي إلى خلق الرخاء المشترك والتضامن". أي الالتزام بالوعد الذي تم إعلانه بتطبيق منظومة اليورو. وإدراك أن "اليورو كان مجرد وسيلة لتحقيق غاية، وليس غاية في حد ذاته". فما آلت إليه الأوضاع في أوروبا تشير إلى أن "هناك شيئا ما خطأ". الكثيرون ممن يعيشون في أوروبا باتوا "يشعرون بالفزع من الدراما التي تتوالى فصولها...من طبقة وسطى تتعرض فجأة للتهلكة: من متقاعدين خفضت معاشاتهم إلى أدنى حد، وشباب خريجي جامعات يبحثون عن وظيفة ولم يجدوها، ومشردين يعيشون في ملاجئ،...". ومن ثم لم يعد من المجدي "الاضطلاع ببرامج تستهدف التخفيف من الأعراض". كذلك السير في طريق ما بات يعرف "بالإصلاحات الهيكلية" لأنها عرضت دول أوروبا إلى "اخفاقات متفاقمة"...
في هذا المقام، يطرح "ستيجليتز" تصوره لتصويب مسيرة منظومة اليورو وإقامة بيئة أوروبية يمكنها العمل بنجاح وذلك من خلال "روشتة" اقتصادية مبتكرة تتضمن سبعة إصلاحات هيكلية لمنظومة اليورو تتعلق: بالنظام المصرفي، والتأمين المشترك على الودائع وضما تدفقها من الدول الغنية إلى الفقيرة، وبالديون الأوروبية، وتأسيس أطر تتضمن الاستقرار المؤسس الاقتصادي والمالي. إعادة النظر في الكثير من السياسات التي تمس الأجور وسعر صرف العملة، وكيفية التحفيز على التشغيل الكامل والنمو في كل أوروبا، كيفية جعل النظام المالي يخدم المجتمع، والسير في التوسع نحو أخذ الشركات بالحوكمة لدفعها على تخصيص استثمارات طويلة الأجل في البحث والتكنولوجيا، والمعدات، والأكثر أهمية في العاملين لديها. فلا بد من مراجعة ذهاب غالبية الأرباح إلى رواتب الرئيس التنفيذي ودائرة الوظائف العليا ولحملة الأسهم. ما يحول دون تخصيص الأجور اللائقة للعمال وصغار الموظفين، والأخذ بسياسات التصنيع غير نمطية تتجاوز التحويلية إلى القطاعات التي سوف تحدد ملامح القرن الحادي والعشرين،...،إلخ.
ومن أهم ما أكد عليه "ستيجليتز" هو نقده الحاد لاعتماد أوروبا على "السياسة النقدية في استجابتها للأزمات الاقتصادية". مثلما فعلت الولايات المتحدة الأمريكية تماما. فلابد من إدراك أن "للسياسة النقدية حدودا". ويقينا لن يكون "التقشف" ــ أو تقليص إنفاق الحكومة وزيادة إيراداتها ــ هو الحل. لما له من تداعيات اجتماعية وسياسية واقتصادية تتكثف معا لتنتج لنا وضعا يفتقد إلى اللامساواة وعدم تكافؤ الفرص وسوء التوزيع. وهو وضع لم يلحق بدول أوروبا الفقيرة أو الأقل غنى فقط وإنما طال دول أوروبا الغنية. وما التحولات الجذرية التي حلت بالبنية السياسية الأوروبية خلال العامين المنصرمين والتي تجلت في بزوغ أحزاب وحركات جديدة إلا تجلٍ غاضب للمواطنين تجاه الأزمة الاقتصادية العامة ومنظومة اليورو خاصة. ويقول "ستيجليتز" بوضوح: "لابد أن يكون هناك مقياس وحيد لقياس نجاح أي سياسة اقتصادية. وهذا المقياس هو رفاهية مواطني البلد، وليس فقط رفاهية المواطنين الذين يمثلون ال1 في المائة عند القمة. والرفاهية تعني أكثر من مجرد الدخل، وفي عملية قياس النجاح هناك ما يزيد على مجرد تقييم ما حدث للناتج المحلي الإجمالي، أو حتى لنصيب الفرد منه. وبالنسبة إلى كثير من الأفراد، يعد العمل الهادف واللائق جزءا مهما من حياتهم، والاقتصاد الذي ينكر العمل الهادف لأقسام واسعة من سكانه ــ والاقتصاد الذي يحرم أقساما كبيرة، دعك من أن تكون الأغلبية، من شبابه هو نظام اقتصادي فاشل. أو هي مجموعة فاشلة من الترتيبات الاقتصادية. والنظام الاقتصادي الذي يترك أقساما كبيرة من السكان تواجه مستويات مرتفعة من انعدام الأمن، هو أيضا، نظام فاشل".
اجتهد "ستيجليتز" في التأكيد على ضرورة إصلاح "اليورو"...وبأن منظومة اليورو هي "من صنع البشر، مؤسسة أخرى غير معصومة من الخطأ خلقها رجال غير معصومين". ومن ثم هناك إمكانية لإصلاحها...ويقدم الرجل الناقد لليبرالية الجديدة ابتكارات اقتصادية حقيقية تعكس علما متجددا ومعرفة بالأحوال والتجارب الاقتصادية المتنوعة.
ويختم "ستيجليتز" أطروحته الموسعة والتفصيلية بأن جل التحليل الذي قدمه يظهر ثلاث رسائل كما يلي: الأولى: أن العملة المشتركة تهدد مستقبل أوروبا. والارتجال والتخبط لن ينجحا في العمل. وثانيا: المشروع الأوروبي مهم للغاية بحيث لا تمكن التضحية به على صليب اليورو. فأوروبا ـ العالم تستحق أفضل من هذا. وثالثا: هناك عدة بدائل للنظام الحالي.
والانتقال بمنطقة اليورو مما هي عليه اليوم إلى واحد من هذه البدائل لن يكون أمرا سهلا، ولكنه أمر من الممكن تنفيذه. ومن أجل أوروبا، ومن أجل العالم...ومن ثم فإن ما أطلق عليه الزواج السيء (بين أوروبا والعملة الموحدة)يمكن تجديد رابطته...