’’كان الأداء الاقتصادي لبلدان منطقة اليورو مخيبا للآمال‘‘...
بهذه الكلمات يوجز عالم الاقتصاد الحاصل على نوبل في الاقتصاد عام 2001 والناقد للنظام الاقتصادي النيوليبرالي "جوزيف استيجليتز"، رأيه في منظومة اليورو في كتابه المعنون: "اليورو: كيف تُهدد العملة الموحدة مستقبل أوروبا"(جزءان صدرا في سلسلة عالم المعرفة في شهري سبتمبر
وأكتوبر الماضيين، ترجمة الباحث الاقتصادي المعتبر الأستاذ مجدي صبحي). وفي تفسيره لرأيه، لا يجد وصفا يعبر عن التجربة الأوروبية الاقتصادية الوحدوية إلا وصفه إياها "بالزواج السيء" “Bad Marriage”؛...
فعن طبيعة هذا "الزواج" يفصل قائلا: " يضم الزواج السيء فردين ما كان ينبغي أن تربطهما عهود بارتباط من المفترض أنه غير قابل للانفصام. واليورو أكثر تعقيدا من ذلك (بالطبع): فهو عبارة عن اتحاد بين 19 دولة مختلفة اختلافا بيِنا يرتبط بعضها ببعض. حينما يذهب زوجان يعانيان المشاكل إلى مستشار الزواج سوف يحاول المستشار التقليدي/النمطي اكتشاف ما الذي يمكنه أن يجعل هذا الزواج ناجحا، ولكن المستشار <العصري> سوف يبدأ بطرح السؤال التالي: هل يجب إنقاذ هذا الزواج؟ وربما تكون تكلفة فسخ هذا الزواج ــ المالية والعاطفية ــ مرتفعة جدا. ولكن تكلفة البقاء معا ربما تكون حتى أكثر ارتفاعا. وواحد من الدروس الأولى في علم الاقتصاد هو ترك الماضي للماضي"...وعليه، لا يصبح من المجدي التفكير في مد عمر الزواج. أو أن أو اثارة الجدل المطول بأنه "ما كان عليهم الزواج مطلقا". وفي نفس الوقت يقول "استيجليتز":" من الخطأ، أيضا، تجاهل الروابط العاطفية التي نشأت من خلال سنوات الزواج. ولكن لا تزال هناك مواقف يكون من الأفضل فيها الافتراق، مع أخذ التاريخ في الاعتبار"...
بهذا الوصف يحاول "استيجليتز" تبسيط المشهد الأوبوي الراهن. وضمنا يدحض كل الحجج التي واكبت الحماس المتقد لتبرير تأسيس منطقة اليورو الأوروبية...حجج من عينة: أولا: أوروبا الموحدة سوف تكون صاحبة نفوذ أكبر على المسرح العالمي. وثانيا: انها ستكون أكثر قوة من ذي قبل. وثالثا: أن التكامل الاقتصادي الأوثق سوف يؤدي إلى تسريع النمو الاقتصادي، وذلك بناء على فكرة أن الأسواق الأوسع تؤدي إلى زيادات في مستوى المعيشة نتيجة لاقتصاديات الحجم(أي انخفاض تكلفة إنتاج الوحدة من المنتج مع الزيادات في حجم الإنتاج)، والاستفادة من المزايا النسبية لدى كل بلد على حدة من دول أوروبا الموحدة اقتصاديا. المزايا النسبية الناتجة عن زيادة الكفاءة مع تخصص كل بلد في إنتاج ما يمتلك فيه من مواطن قوة نسبية.
نعم، هناك فكر اقتصادي يدعم هذه الحجج ولكن، يؤكد "استيجليتز" أن هناك أخطاء فادحة في التطبيق لم تأخذ اختلاف السياق الذي شاع فيه هذا الفكر الاقتصادي الذي ينتمي إلى سياق مجتمعي زراعي الإنتاج بالأساس وفي مرحلته الأولية من الانتاج الصناعي. وأن حركة السلع، والعمل، ورأس المال آنذاك تختلف كليا عن اللحظة الراهنة. "فاليورو" منبت الصلة عن السياق السابق كليا"، بحسب "استيجليتز". بل يصل، الحاصل على نوبل والخبير بكواليس المؤسسات الدولية المالية اليمينية التوجه، والتي عمل بها لمدة طويلة، بأن ما جرى من "خلق لليورو" أو منظومة العملة الواحدة، هو "زلة" “Misstep”؛ حيث تم إطلاق هذه المنظومة "قبل الأوان وقبل الوفاء بالشروط المطلوبة، وبطرق أدت إلى ما يلي: أولا: تهميش أوروبا. وثانيا: أضعفت الرفاه الأوروبي الذي تحقق في بعض البلدان. كما أعاقت تحققه الذي كان متاحا للبعض الآخر. ثالثا: شككت في جوهر العملية التكاملية والرهانات التي كانت متوقعة عليها. ويستفيض العالم الكبير في تفصيل ما سبق في الفصل المعنون: "اليورو: الأمل والواقع".
وبالنتيجة، كان "أداء أوروبا البائس" “Dismal”؛ أو المُحبط، أو الكئيب، أو الفاشل الذي أدى إلى تفاقم البطالة خاصة بين الشباب، وتناقص الانتاجية، وانخفاض ساعات العمل، واللجوء إلى سياسات تقشفية حادة في كل دول أوروبا الموحدة دون تمييز. ما أدى إلى أمرين غاية في الأهمية هما: الأول: تنامي اللامساواة بدرجة كبيرة. والثاني: حدوث ارتباكات اقتصادية ومالية حادة في كثير من الدول الطرفية الأوروبية. صحيح لم تنج دول المركز من الارتباك مثل ألمانيا ولكن التجربة أثبتت كيف في لحظات الأزمة تعمل دول المركز على التقليل من تداعيات الأزمة وتخفيف الارتباك بنقلها إلى الأطراف. ثم تعود دول المركز لتمارس الهيمنة على دول الأطراف. وهو ما حدث، على سبيل المثال، في حالة الأزمة اليونانية والمفاوضات التي خاضتها مع ألمانيا. فبالرغم من أن الدولتين تجمعهما رابطة وحدوية مشتركة إلا أن سير المفاوضات التي تمت تؤكد هيمنة المركز متمثلا في ألمانيا في محاولتها في ضرورة أن "الآخرين عليهم أن يتبعوا نموذجها"، باعتبارها نموذجا ناجحا. وهو أمر غير صحيح بالمطلق.
إذن، ما حققته منظومة اليورو الوحدوية، في واقع الأمر، وبشكل مباشر وحي، إضافة للازمة الاقتصادية بتجلياتها النقدية والمالية والانتاجية المباشرة، هو حدوث خلخلة مادية في الجسم الاجتماعي الأوروبي عنوانه العريض: "عدم المساواة". من حيث أولا: إضعاف الطبقة الوسطى، والإفقار المتزايد للفقراء وضم إليهم شرائح إضافية من الطبقة الوسطى، وبالطبع زيادة الثراء للقلة الثرية. وذلك في داخل الدولة الواحدة أو بين الدول الأوروبية المتحدة...ما أطلق العنان للحركات المواطنية القاعدية بتجلياتها المتنوعة...لماذا؟ وكيف؟...نتابع في مقالنا الأسبوع القادم مفاوضات فك الارتباط الجاري للزواج السيء...