’’إلى الفرح:
يا جذوة الفرح، أيها القبس الإلهي الجميل...يا أيها الفرح ضم شمل النازحين والمتفرقين...فالناس جميعا إخوان، تظللهم بجناحك...أيها الفرح العلوي...ليحتضن البشر بعضهم بعضا،...‘‘...
نظم، هذه الكلمات، الشاعر الألماني "شيلر" وقام بتجسيدها موسيقيا الموسيقار العظيم "بيتهوفن" وعرفت
باسم "لحن الفرح" ويمثل الحركة الرابعة والأخيرة من السيمفونية التاسعة لبيتهوفن(أي الجزء الأخير من ضمن أربعة مقاطع)، والمعروفة بالكورالية(عزفت لأول مرة في فيينا عام 1824). وهي القطعة التي تم اعتمادها سلاما وطنيا لأوروبا الموحدة رسميا عقب توقيع معاهدة لشبونة عام 2008 والتي اُعلن من خلالها ميلاد "الدولة الأوروبية الواحدة واندماج كل الدول الأوروبية في إطار قاري جامع".
ولم تكن كلمات السلام الأوروبي القاري مجرد كلمات. فلقد كان الأوروبيون يشعرون ــ بالفعل ــ بالفرح. وأنهم قادرون على صياغة كيانا اندماجيا سياسيا موحدا لدول القارة الأوروبية يمكنهم من: أولا: زيادة النفوذ الأوروبي العالمي. ثانيا: رفع القدرة الأوروبية الاقتصادية ومن ثم السياسية لأعلى درجة ممكنة. ثالثا: مواجهة القطب الأمريكي والأقطاب الصاعدة في المنظومة الدولية. وكان ما يدعم لحظة الفرح هذه أن نظام اليورو الأوروبي أو توحيد العملة بين مجموعة ــ حول ال25 دولة آنذاك ــ بدأت تتداول اليورو كعملة أوروبية رسمية قبل عشر أعوام ــ تقريبا ــ من توقيع معاهدة لشبونة. حيث اعتبرها "أنصار اليورو" مثالية وناجحة. ما يضمن تحقيق: أولا: تكاملا اقتصاديا غير مسبوق. ما يؤدي ثانيا: لنمو اقتصادي أسرع. وثالثا: يؤمن السلام في أوروبا.
ولكن واكب حالة الفرح العارمة بالوحدة الأوروبية أن "اندلعت الأزمة المالية العالمية". ما أثر سلبا على الاقتصاد الأوروبي. ولم تستثن الأزمة دولة من دوله: غنية كانت أم فقيرة.
في هذا السياق، يأتي كتاب "اليورو: كيف تُهدد العملة الموحدة مستقبل أوروبا؟"؛ للعالم الاقتصادي الكبير "جوزيف استيجليتز" الذي صدر بالإنجليزية في 2016 (ما يقرب من 400 صفحة من القطع الكبير). والذي قام بترجمته الاقتصادي المخضرم الباحث الكبير الأستاذ مجدي صبحي في جزءين صدرا في سلسلة عالم المعرفة (سبتمبر وأكتوبر 2019). وهو كتاب غاية في الأهمية وذلك للأسباب الخمسة التالية: الأول: يقدم لنا السبب الحقيقي للأزمة الاقتصادية التي طالت دول أوروبا. والسبب الثاني: يشرح بدقة وموضوعية أثر الخيار "النيوليبرالي" الاقتصادي على الواقع الاجتماعي الأوروبي: داخل كل دولة من جهة، وبين دول المركز الأوروبي ودول أوروبا الطرفية من جهة أخرى. أما السبب الثالث: التأكيد على أن الأزمة الأوروبية لها تداعيات عالمية مؤذية على بقية أرجاء العالم. أي أنها ليست أزمة أوروبية خالصة. أما السبب الرابع: معالجة ــ الكتاب ــ لقضية التكامل القاري وهل يبدأ بالاقتصاد أم بالسياسة؟. وأخيرا السبب الخامس: ويتعلق برؤية "ستيجليتز" لمستقبل القارة الأوروبية...أي أننا في المجمل يمكن أن نقول أن الكتاب هو اطلالة تفصيلية ودقيقة ــ ميكروسكوبية ــ على الحالة الراهنة للنظام الاقتصادي العالمي يقوم بها: تأصيلا، وتحليلا، وتشخيصا، عالم جليل ناقد لهذا النظام عن علم ومعرفة وممارسة (أوضحنا أهمية جوزيف استيجليتز ــ ليس باعتباره حائزا لنوبل للاقتصاد عام 2001 ــ ولكن كعالم وممارس اقتصادي، في مقالنا الأسبوع الماضي).
في بداية أطروحته، يقول استيجليتز: "وباعتباري اقتصاديا، كانت تجربة اليورو مثيرة للاهتمام. وحيث إنه لا يتسنى للاقتصاديين إجراء تجارب معملية؛ علينا اختبار أفكارنا بناء على التجارب التي تلقي بها الطبيعة ــ أو السياسة. واليورو، وفقا لاعتقادي، قد علمنا الكثير؛ إذ أنه تشكل من مزيج من الخلل العلمي الاقتصادي والأيديولوجيات. فقد كان نظاما لم يستطع العمل فترة طويلة ــ إذ بحلول وقت الركود الكبير كانت جميع عيوبه معروضة كي يراها الجميع. وفي اعتقادي أن القصور المتأصل كان ظاهرا منذ البداية لكل شخص راغب وقادر على النظر. وأسهم هذا القصور المتأصل في تراكم الاختلالات التي مارست دورا مركزيا في الكشف عن الأزمة. وهي الأزمة التي سوف تقتضي سنوات عدة من أجل التغلب عليها"...ما خلق، بحسب وصف "ستيجليتز": ’’المعاناة الأوروبية المريرة‘‘ “Europe’s Travails”...
حول هذه الفكرة تتشكل "الأطروحة المركزية" “The Central Thesis”؛ "لجوزيف استيجليتز"، والتي نوجزها في الآتي: "خلق العملة الموحدة، اليورو. أو بشكل أكثر دقة، خلق عملة موحدة من دون تأسيس مجموعة من المؤسسات التي تمكن إقليم أوروبا المتنوع من العمل بكفاءة مستخدما عملة واحدة".
إذن، ساد حلم الوحدة الأوروبية في بعده السياسي والسعي "الفرح" بضرورة اندماجها باعتبارها كتلة ثقافية واحدة على حساب بناء البنية الاقتصادية اللازمة لتحقيق الحلم الوحدوي والاندماج الثقافي...ما أدى إلى "اداء اقتصادي بائس" تجلت مظاهره في العديد من الإخفاقات الاقتصادية" ليس في دول المحيط الأوروبية، فقط، مثل: اليونان، والبرتغال، وإيرلندا وإنما امتدت الأزمة إلى دول المركز مثل ألمانيا...وهي الحالة التي أدت إلى أن تقع أوروبا في "أزمة" مركبة: اقتصادية وسياسية وثقافية واجتماعية...وصلت أوروبا إلى هذا الحد بفعل، يقول "استيجليتز": سياسيون "فقدوا صلتهم بجمهورهم الانتخابي...صمموا نظما لا تخدم مواطنيهم بشكل جيد...ما أتاح هيمنة المصالح المالية على حساب مؤازرة التكامل الاقتصادي...وغلُبت الأيديولوجية النيوليبرالية التي نجم عن سياساتها بُنى اقتصادية تفيد القلة بينما تُعرِض أقساما واسعة من المواطنين للخطر"...وبالنتيجة وصلت أوروبا إلى ’’الزمن المرير‘‘...نتابع في مقال الأسبوع القادم، تفصيلا الأفكار والسياسات التي أدت إلى الأزمة وبعضا من تجلياتها العملية...