كنت في بيروت ــ التي أعشقها ــ مطلع هذا الشهر. لم تزد حصيلة ما أتيت به من كتب عن أربعة. وهو رقم يعد من رمزيا بالنسبة لكل زياراتي البيروتية التي تكاد تكون منتظمة ودورية منذ العام 1995. أي منذ ما يقرب من ربع قرن. كأمين عام مشارك لمجلس كنائس الشرق الأوسط من(1995 ــ 2001). أو مستشارا وعضوا مؤسسا لأكثر من مؤسسة لبنانية. وبالطبع مشاركا في العديد من الفعاليات الفكرية والبحثية المتنوعة بعد ذلك.
ولا أدري بدقة لماذا في هذه المرة اكتفيت بهذا العدد "الرمزي" مقارنة بما كنت أحمله من كتب عديدة من حصيلة الجولات الممتعة في دور النشر المختلفة. المفارقة أن ثلاثة كتب من الأربعة أُهديت لي...الأول من الدكتور سعيد بن سعيد العلوي المفكر المغربي المعروف حيث أهدى لي رواية بديعة بعنوان "ثورة المريدين". والثاني: أهداه لي الأخ والصديق والمفكر الكبير المعنون: "المدينة العربية والحداثة". أما الثالث كان كتابا أبحث عنه من وقت طويل صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية أحضرته لي الأخت لونا ابو سويرح مدير عام المركز. يبقى الكتاب الرابع والأخير الذي قمت بشرائه ألا وهو: "غرق الحضارات" لأمين معلوف. وقد شرعت في قراءته قبل عودتي إلى القاهرة. ما دفعني بمجرد العودة إلى الوطن مراجعة مجمل كتاباته من: "أدب، ودراسات تاريخية، وبحوث"، والكتابة عن مجملها في مقالنا السابق. مع تركيزنا على دراساته البحثية التي تسجل في العموم روح العصر وتحولاته المتجددة والمتضاعفة. وكتبه البحثية/الدراسية هي: الأول: "هويات قاتلة ــ النهار 1999، والثاني: "اختلال العالم ـ الفارابي 2009"، الثالث: "غرق الحضارات ــ الفارابي 2019".
ولعل من أهم ما يميز الكتب الثلاثة هو أن هناك خيطا رابطا بينها يتمثل في: أولا: منهج المكاشفة في مقاربة أحوال العالم. ثانيا: التحرر من الأيديولوجية ما يعين على النقد دون حسابات أو مصالح. ما يمكنه من إدانة سلبيات التجربة اليمينة المحافظة في الاقتصاد والثقافة والدين. كذلك التجربة الاشتراكية بانتهاكاتها الشمولية. أيضا سوءات التشدد والعنف والإرهاب الديني ومؤسساته الداعمة. ثالثا: رصد وتأمل حال العالم وما آلت إليه الإنسانية على مدى عقدين من الزمن من خلال محطات تاريخية لبنانية وعربية وإقليمية ودولية هامة. رابعا: انطلاق "معلوف" في مقارباته من مادة انسانية حية تتمثل في أسرته، ووطنه لبنان ووطنه التالي فرنسا، فجولاته العابرة للحدود. ومن خلال مطالعاته ورحلاته ومتابعاته. حيث ضفر حصيلته بأسلوب أدبي وتوثيقي وتحليلي شيق. قد نختلف معه وقد نوافقه. ولكن يقينا سوف نجد أنفسنا في حالة تدفعنا إلى المراجعة وإعادة النظر في اللحظة التاريخية التي يعيشها عالم اليوم. والأهم الانشغال الجدي بماذا عن المستقبل...
ثلاث كلمات مفتاحية يمكن أن تصف عالم الألفية الثالثة وذلك كما يلي: "الصراع/الصدام، والاختلال، والغرق"... يحكمها في خلفية الذهن "البحر بمفرداته"...أقصد أن "أمين معلوف" يشير أكثر من مرة إلى أن "الصورة البحرية" في مخيلته عند مقاربته للعالم. حيث الصورة التي تقضٌ مضجعه" ــ دوما ــ وتدفعه إلى القلق على "رفاقه في السفر" هي أن المركب الذي يحمل الجميع "بات يعد هائما على وجهه، وأنه لابد من صحوة، ومن حالة طوارئ تفاديا للغرق"، (اختلال العالم ــ 2009). فلن يكون "كافيا أن نواصل السير في الوثبة التي بدأناها، كيفما أتفق، مبحرين اتكالا على البصر، متحاشين بعض الوقائع، مسلمين أمرنا للزمن. فالزمن ليس حليفنا، وإنما هو القاضي الذي يحاكمنا"...هذا تحذيره بفعل اختلال العالم فكريا واقتصاديا وبيئيا وذلك كما يلي:
أولا: الاختلال الفكري متمثلا في صدام الهويات وصراعاتها. او بحسب وصفه "انفلات المطالبات المتعلقة بالهويات من عقالها. مما يجعل من العسير استتباب أي تعايش متناغم وأي نقاش حقيقي" بينها،(هويات قاتلة ــ 1999)...ثانيا: الاختلال الاقتصادي والمالي الذي من شأنه جر الكوكب بأسره إلى المنطقة من الاضطرابات يتعذر التكهن بنتائجها...ثالثا: الاختلال البيئي الناجم عن فترة طويلة ممارسات غير أخلاقية من قبل الشركات وشبكات المصالح الكبرى في انضاب واهدار وتشويه الطبيعة والبيئة...ما أوصلنا إلى هذا "الدرك"، المتمثل بحسب "معلوف" بحالة من "الإنهاك". ما يدفع البشرية إلى "الغرق".
ويصف "معلوف" اللحظة الراهنة ب"سفينة حديثة، متلألئة، واثقة من نفسها، مشهورة بأنها لا تغرق، مثل ’’التايتانك‘‘(نسبة إلى فيلم دي كابريو الأشهر وكيت وينسليت انتاج 1997)، تحمل على متنها أعدادا غفيرة من الركاب من جميع البلدان والطبقات الاجتماعية كافة، وتمضي وسط الصخب نحو هلاكها"...وأنا، يقول "معلوف" في "غرق الحضارات": "لا أراقب مسارها كمجرد مشاهد عادي؟ فأنا على متنها مع جميع أبناء عصري. مع أكثر الناس الذين أحبهم، والناس الذين أحبهم بقدر أقل. مع كل ما بنيته، أو ظننت أنني بنيته"...وما الغرق إلا "استعارة مجازية، تتسم بذاتيتها حتما، وبطابعها التقريبي حتما. وفي وسع المرء أن يعثر على صور مجازية أخرى قادرة على وصف تشنجات هذا القرن"...إنه القرن الذي تم استهلاله بتفجير العلاقة الكونية بين الحضارات/الثقافات/الأديان ما أدى إلى الصدام، والصراع، والتقاتل، وأخيرا اشعال "الحدود الدموية" بينهم، إذا ما استعرنا تعبير "هانتينجتون". ولحقت به الاختلالات الثلاثة سالفة الذكر. وأخيرا الاندفاع إلى "شفير الكارثة"..."الغرق على المستويات الإنسانية، والأخلاقية، والسياسية"...
ولكن يبقى السؤال هل من إمكانية لصياغة رؤية ناضجة في النهاية حول مصير العالم/الكوكب الذي يحملنا جميعا؟...نتابع الإجابة...