حلت منذ أيام الذكرى العشرين ــ وتحديدا في التاسع من سبتمبر الماضي ــ لرحيل "عظيم " المواطنة: "وليم سليمان قلادة"(1924 ــ 1999)، والذي حلت أيضا ذكرى ميلاده ال95 في مارس الماضي..."قلادة" الذي كرس حياته من أجلها فكرا وفعلا. فأستحق اجماعا وطنيا من كل التيارات الفكرية والسياسية ــ لم يحظ به أحد مثله ــ على أن مجمل أعماله وحياته تمثل "مدرسة للوطنية المصرية".
ومدرسة الوطنية المصرية هو الوصف الذي اعتمدته نخبة من رموز مصر الفكرية ــ على اختلافها ــ لوصف "أيقونتنا الحية": وليم سليمان قلادة؛ ومنهم: الراحلون: اسماعيل صبري عبد الله، وأنور عبد الملك، وأبو سيف يوسف، ورفعت السعيد، وأحمد عبد الله رزة، والسيد يسين، ورءوف عباس، وعادل حسين، واللواء أحمد فخر، والدكتور ابراهيم صقر، ومحمود أمين العالم، ورأفت عبد الحميد،...، ومن الأحياء ــ أمد الله في أعمارهم: طارق البشري، والأنبا موسى، ومحمد سليم العوا، ونبيل عبد الفتاح، وجورج اسحق... بالإضافة إلى أوصاف أخرى مثل: "حكيم من مصر" لجمال الغيطاني، و"عاشق التاريخ" لمحفوظ عبد الرحمن، و"موسيقي التاريخ" للشيخ سيد مكاوي، و"المواطنة في القلب" لأنور عبد الملك، و"المدرسة الوطنية للنزاهة والصالح العام" لنبيل عبد الفتاح، "مفكر الجماعة الوطنية" لمينا بديع عبد الملك،...
كان "الدكتور وليم سليمان قلادة"، وكيل مجلس الدولة الأسبق، صاحب مشروع فكري متكامل حول "مصر والمصريين" من منظور حركتهم عبر التاريخ المصري الممتد من أجل اكتساب "المواطنة" التي تقوم على أمرين هما: "المساواة والمشاركة"، في ظل أنظمة الحكم المتعاقبة. وأثناء دراسته لهذه الحركة كان يرصد أهم ما يتسم به الكيان المصري من مقومات. فهو "البيئة الحاضنة التي تنمو فيها شجرة المواطنة" بفعل حركة المصريين الدائمة.
وفي هذا المقام، رصد سبعة مقومات للكيان المصري، تتفاعل فيما بينها لتجسد في النهاية "الشخصية المصرية" في صورة حية وفاعلة ومتجددة. هذه المقومات هي: أولا: الجغرافيا أي الأرض. ثانيا: البشر أو المصريون على اختلافهم الذي يوحدهم الأصل العرقي الواحد أو بلغته التجانس العرقي. ثالثا: المشروع المصري. رابعا: الدولة. خامسا: الحضارة المصرية في صورتها المركبة التي تعكس تراكم مكوناتها المختلفة عبر التاريخ. سادسا: التعددية الدينية حيث أمكن أن يتعايش مطلقان على مدى قرون بالرغم من أي شيء. حيث كانت المعاناة المشتركة توحدهما في مواجهة الحكم الوافد والمستعمر. سابعا: التاريخ، أو المسار الذي استوعب المقومات الستة السابقة أو حركة المصريين الواقعية. وأوجد علاقة جدلية تتفاعل فيها حركة المصريين مع مقومات الكيان المصري السبعة من أجل استخلاص المواطنة لكل المصريين ــ دون تمييز ــ والتي تمثل حجر الأساس للدولة المصرية: الحديثة، الوطنية، المستقلة، الدستورية، الحرة، العادلة،...
بلور وليم سليمان قلادة مشروعه الفكري على مدى زمني ممتد ــ على نار هادية بروحية القاضي الباحث عن الحقيقة ــ بداية من "الكنيسة المصرية تواجه الاستعمار والصهيونية" ــ 1968، و"الحوار بين الأديان" ـ 1979، والمسيحية والإسلام في مصر ــ 1989، و"مبدأ المواطنة" ــ 1999، و"المواطنة المصرية: حركة المحكومين نحو المساواة والمشاركة" ــ 2011(وهو الكتاب الذي وضع مسوداته قبل أن يرحل ولم ير النور إلا بفضل محبيه وتلاميذه لاحقا والذي يعد مرجعا مصريا معتبرا لا يقل عن كتاب هوية فرنسا لبرودل أو ما شابه). بالإضافة إلى العديد من الدراسات في مجال: القانون، واللاهوت الكنسي، والحضارة، والسياسة. كانت كلها أعمال رائدة ومميزة ومتخمة بالأفكار الألمعية التي كانت مصدرا للإلهام بالنسبة للأجيال التالية مثل: "الدسقولية: تعاليم الرسل"(مجموعة قواعد منظمة للحياة المسيحية) المخطوط التاريخي الذي استغرق تحقيقه عشرين عاما. وصدر عام 1979 في ما يقرب من 900 صفحة من القطع الكبير، بمقدمة تشكل ثلث صفحات المجلد. جاءت لتعلن عن مفكر كبير ذي ثقافة موسوعية: تاريخية، وفلسفية، ولاهوتية، وقانونية، وسياسية،...كما كان له الفضل في صك الكثير من المصطلحات والمفاهيم مثل: اللحظة الدستورية. قواعد الحوار الأربع. النفي الواقعي للذمية. فقه المواطنة.
وهب "وليم" حياته من أجل مشروعه الفكري. والأهم أنه عاشه عمليا. فكان مثالا "للمواطنة الحية" بحسب أنور عبد الملك. وصهر بين الفضائل الانسانية والأخلاق المدنية فكان تجسيدا حيا لقيم: الخير العام، والتقوى، والاتقان، والوطنية، والزهد، والإيثار،...،إلخ. كان "عم وليم"، كما كان يحب أن يناديه جمال الغيطاني، نموذجا للعطاء بلا حدود، والتجرد، والاستغناء...لم يمتلك سيارة في حياته...وكانت فرحته الكبرى أن يجد كتابا جديدا أو يختبر فكرة لافتة له أو لغيره كبر أو صغر سنه أو مقامه...ولم يميز قط بين هموم الوطن وهمومه الخاصة...ولعل الإهداء الذي كتبه لوالده في مقدمة كتاب الكنيسة المصرية عام 1968 يعكس ما سبق حيث نص على ما يلي:
إلى أبي...
إنسانا طيبا يعيش من عمل يده
كانت هموم مصر هي همومه الشخصية
وشارك وسط الجماهير الثائرة في النضال الوطني
وقدم مع الملايين التضحيات اليومية التي صنعت لهذا الوطن اسمه في التاريخ
وأثناء هذا كله كان شماسا في الكنيسة
ونختم بما كتبه الكاتب الصحفي المخضرم رشدي أبو الحسن عن "وليم": "ما أكثر النبلاء الذين يفيدون ويبنون ويبذرون بذور الخير والتقدم، دون أن يشير أحد إليهم أو تدق لهم الطبول".
رحم الله "وليم" أحد ’’بناة المواطنة المصرية وأيقونتها الحية‘‘...