انطلقت الحاجة إلى الحوار من قاعدة مفادها أن هناك حاجة موضوعية للتواصل بين الأطراف المتحاورة وذلك بعد أن اختبرت البشرية, وعلى مدى زمنى طويل أساليب ووسائل صراعية تعددت أسبابها, فمنها ما كان اقتصاديا واجتماعيا ومنها ما كان سياسيا أو كل ذلك معا. إلا أن تعدد الأسباب أكد تاريخيا أن المصالح, هى جوهر الصراع, والتى كثيرا ماوظف فيها الدين للتعمية وللتغطية على المصالح. لقد كان توظيف الدين يسهم فى تحويل النظر عن الأسباب الحقيقية للصراع ويغرق الناس فى الصراع العقدى,
والمذهبى, والدينى أى فى إطار المذهب الواحد وبين المذاهب وبين الأديان-, بيد أنه مع تقدم مناهج دراسة التاريخ تم إدراك أن مااصطلح على تسميته بالحروب الدينية لم يكن كذلك فى واقع الأمر, فالحروب التى سميت بالخطأ الصليبية أدرك المؤرخون العرب أنها لاتمت بصلة للصليب فأطلقوا عليها حروب الفرنجة, وحرب الثلاثين سنة فى أوروبا والتى انتهت بمعاهدة وستفاليا عام 1648 كانت بالرغم من الشكل الدينى تخفى صراعات ذات طابع اقتصادى واجتماعى معقد.
ومن ثم نادى البعض مع بدايات القرن العشرين بعدم الزج بالدين فى الصراعات الكونية, خاصة مع نزوح القوى الاستعمارية آنذاك – إلى توظيف الدين فى خدمة الأطماع الاستعمارية من جانب, واستخدام المذهب كأداة اقتناص لأبناء المذاهب الأخرى من جانب. وكانت القاعدة الفلسفية التى انطلق منها هذا النداء تقوم على أن كل طرف صاحب دين أو عقيدة, يرى الطرف الآخر جديرا بالحترام والمناقشة. ومع مواصلة عملية الحوار يتولد لدى كل طرف أن الآخر ليس محروما حرمانا كاملا من الحق, وأن الحق ليس احتكارا خالصا لأى من الطرفين. وأنه مع ظهور عوامل جديدة تتحدى الطرفين وتهددهما معا, ومع تبلور أهداف مشتركة؛ يتطور الحوار ويزداد عمقا مع التعايش والذى سرعان ما يتطور إلى التعاون فى المجالات المتنوعة. وعليه لابد من عدم إقحام الدين فى الصراعات لأنه سيوظف حتما فى التكفير والتحريم وخطف الآخرين لكى يتمتعوا بالحق المطلق الذى لايملكونه.
ملمحان حكما هذا النداء فى بدايته هما:
– إنها دعوة غريبة بالأساس.
– إنها بدأت فى إطار المسيحية الغربية أولا.
فى هذا السياق بدا كل من الحوار المسيحى- المسيحى من جهة والحوار المسيحى – الإسلامى من جهة أخرى مسيرته التاريخية, ونعرض لمسيرة كل منهما كما يلى:
أولا: الحوار المسيحى المسيحى:
بدأت الحوارات المسيحية – المسيحية فى العشرينات من القرن الماضى وذلك من خلال حركة تعرف بحركة الإيمان والنظام, والتى عقدت مؤتمرها الأول فى لوزان عام 1927 حضره مايقرب من 400 شخص يمثلون كنائس من الأرثوذكس والأنجليكان (كنيسة انجلترا) واللوثريين (احدى الكنائس البروتستانتية الرئيسية), وخلال هذه الفترة تعددت الحوارات مثل حوار لانجليكان والكاثوليك (1921-1926), والأنجليكان والأرثوذكس الخلقيدونيين (منذ عام 1930), واللوثريين والمصلحين (إحدى الكنائس البروتستانتية) (منذ عام 1947). وفى عام 1948 صارت حركة حركة الإيمان والنظام جزءا من مجلس الكنائس العالمى, حيث عرفت باسم لجنة النظام والإيمان وضمت جميع الكنائس فى عضويتها ماعدا الكنيسة الكاثوليكية التى لم تنضم إلا فى عام 1968 إلى هذه اللجنة ولكنها لم تنضم إلى عضوية المجلس ككل وقد اضطلعت الكنيسة القبطية بدور هام فى هذه الحوارات منذ مطلع الستينيات وتحديدا فى عام 1961 فيما عرف بمؤتمر رودس حيث توالت اللقاءات والمؤتمرات بعد ذلك.
ويمكن القول أن هذه الجهود الحوارية كانت تتم من خلال اللقاء المباشر بين الكنائس المعنية أو من خلال آليات تم تكوينها مثل مجلس كنائس الشرق الأوسط, وهو مجلس إقليمى, تأسس عام 1947 ويضم على عكس مجلس الكنائس العالمى كل العائلات الكنسية بما فيها الكنيسة الكاثوليكية العاملة فى المنطقة ويمكن إجمال الهدف الرئيسى من هذه الحوارات فى السعى نحو تحقيق الوحدة المسيحية بين الكنائس, مما ينعكس إيجابيا على الواقع الذى تعيش فيه هذه الكنائس. وقد مورست الحوارات من خلال نوعين أساسيين هما: الحوار اللاهوتى وحوار العمل المشترك؛ حيث يعنى الأول بالقضايا اللاهوتية المختلف عليها بين المشاركين (على مستوى ثنائى أو متعدد), ويعنى الثانى بتكوين رؤى مشتركة حول القضايا الحياتية المتنوعة والاتفاق على برامج عملية مشتركة تخدم الجميع. لم تكن مسيرة الحوارات المسيحية المسيحية يسيرة حيث تعرضت لانتكاسات نجحت فى تجاوزها من خلال التمسك بالحوار كقيمة وأن البديل للحوار يعنى القطيعة, بيد أن هذا لايمنع من الحوارات تتسم بالمصارحة الكاملة, ورصد الفروق الجوهرية بين الكنائس, وأن الاتفاق النهائى, والصيغ المشتركة التى يتم الوصول إليها لاتكون على حساب العقيدة, وعليه تعددت اللقاءات وتنوعت أطرافها.
ثانيا: الحوار المسيحى – الإسلامى:
إن الحوار الإسلامى المسيحى – تاريخيا- فى الأغلب الأعم حوار غير لين, سرعان ما دخل فى طور صراعى إبان حملات الفرنجة للمنطقة, والمرحلة اللاستعمارية, بعد ذلك ولم يظهر مفهوم الحوار بالمعنى الذى طرحناه فى المقدمة إلا بعد أن ظهرت الحاجة داخل المسيحية الغربية المتعددة المذاهب إلى الحوار. وفى نفس الوقت بدا أن هناك ضرورة تحت ضغط المتغيرات الدولية واعتبارات أخرى لايسمح المقام بذكرها تبنى الحوار. لم تلق هذه الرغبة الغربية فى الحوار قبولا من قبلنا حيث صورة الغرب الاستعمارى كانت ماثلة فى الأذهان للمسلمين ولمسيحى الشرق على حد سواء. ولكن مع مرور الوقت بدأ قبول دعاوى الحوار, وإن كانت باستجابات متفاوتة. وعندما بدأت دول المنطقة تعرف طريقها للاستقلال السياسى وعودة بعض من التوزن بيننا وبين المنظومة الغربية, والانتشار المتزايد للتعدد الدينى والمذهبى فى المجتمعات الغربية بات الحوار حاجة ضرورية, والاقتناع من جانبنا أن الحوار ربما يكون قادرا على إصلاح ما تفسده الصراعات. فى هذا السياق بدأ الحوار المسيحى – الإسلامى عقائديا فى البداية ولكنه سرعان ماتطور نحو الاهتمام بالقضايا الحياتية للناس مثل: العلد الاجتماعى, والفقر, وحقوق الإنسان, والحرية,….الخ, بالطبع كان كل طرف يستلهم من دينه ما يدعم هذه القيم. كذلك بدأ الحوار من خلال المؤسسات الرسمية إلا أنه مع الوقت اتسعت بيئاته الحوار لتشمل أناسا مهتمين ومؤسسات مدنية, وتكونت أيضا مراكز بحثية تعمل فى هذا الاتجاه.
وتعددت أنواع الحوار التى نرصدها فى سبعة أنواع (ثلاثة منها رصدها الراحل وليم سليمان قلادة فى كتابه العمدة الحوار بين الأديان -1979-, وأربعة أضفناها فى كتابنا الآخر الحوار المواطنة 2005) وذلك على الترتيب كما يلى: الحوار الموجه, الحوار المجرد, الحوار من خلال الحياة المشتركة, الحوار الدعوى, الحوار السجالى, الحوار السكونى أو الاحتفالى, الحوار الثقافى. ويشار هنا إلى أن الحالة المصرية لم تعرف سوى نوعين – تاريخيا – حوار الحياة المشتركة التى اختبرتها بحلوها ومرها, والحوار السجالى الذى يبرز فى لحظات التأزم. بيد أن مصر قد اختبرت فى العقود الثلاثة الأخيرة الحوار الثقافى كرد على أحداث العنف الدينى حيث بدأ البعض حول الإشكاليات التى تمس المسلمون والمسيحيون بسبب الانتماء الدينى وهو الحوار الذى أطلق عليه “الحوار على قاعدةالمواطنة”. بالطبع تعرضت مسيرة الحوار المسيحى الإسلامى وتتعرض لكثير من التحديات بفعل الأحداث السياسية التى تشهدها المنطقة من جانب, والعالم من جانب آخر, ولشطحات البعض من جانب ثالث, وللتوترات الدينية الصلبة والناعمة – من جانب رابع, وللانتقادات التى دائما توجه حول نخبوية الحوار.
بيد أن التأكيد على أن الحوار بمضمونه الفلسفى الذى قدمنا به موضوعنا إنما يمثل فى ذاته أهمية على التمسك بالحوار كآلية قادرة على إعمال العقل والوصول إلى حلول ناجعة وقت الأزمات وفى مواجهة ما أسلفنا من تحديات. كذلك تلافى الانتقادات التى يواجهها الحوار ودفع المجتمع المدنى إلى تأسيس منتديات حوارية ذات طابع مدنى قاعدى حيث تجعل من الحوار أداة للتلاقى وللتفاعل والاندماج بين المسلمين والمسيحيين, ذلك لان الحديث المشترك بينهم سيكون حول قضايا تشغلهم معا, وهموم مشتركة تمثل معاناة لاتفرق. كما أن البرامج المشتركة التى ستنتج عن هذا الحديث ستدفع نحو التماسك والوحدة فى مواجهة ما أسميه “فيروس التفكيك” الذى تشهده المنطقة. إن التمسك بالحوار وإشاعاته ليصير ثقافة سائدة من جهة, وآلية جامعة للناس من جهة آخرى, هو السبيل لمواجهة دعاة توظيف الدين فى الصراعات السياسية, وجعله عنوانا للمخططات لتحويل النظر عن الأهداف الحقيقية.