تحل في هذه السنة الصعبة الذكرى ال 75 عاما على تأسيس منظمة الأمم المتحدة وتفعيل ميثاقها (24 أكتوبر 1945). وبهذه المناسبة انطلق جدل حول ما آلت إليه، أحوال المنظمة العريقة فقط، وإنما وضعية النظام العالمي ككل...
وفي هذا الإطار، أفردت قبل أسبوعين،دورية "الإيكونوميست" الأسبوعية ملفا خاصا تحت عنوان:
"اللانظام العالمي الجديد"...وقبل أن نقاربه، نلقي الضوء على مصطلح: "اللانظام العالمي"...
بدايةهو تعبير ليس جديدا. وبتتبع مسار هذا المصطلح وجدنا أن كثيرين قد استخدموه في كتاباتهم ولعل من أبرزهم الفيلسوف الفرنسي ــ البلغاري الأصل ــ"تزفيتان تودوروف" (1939 ـ 2017) الذي خصص كتابا حمل هذا العنوان في مطلع الألفية الحالية انتقد فيهالهيمنة الأمريكية أو الترويج بأن الولايات المتحدة الأمريكية "قوة عظمى وحيدة" ــ بحسب تعبير صموئيل هانتينجتون ــ في الساحة الدولية يحركها سلوكا إمبراطوريا تغذيه "قوة فائقة" تمكنها من تطبيق ما أطلق عليه وزير دفاع بوش الإبن، من 2001 إلى 2006، "دونالد رامسفيلد" "استراتيجية خوض حربين كبيرين في موقعين مختلفين". وبالفعل، تبين عدم القدرة على الاستمرار في هذه الاستراتيجية.
ومن ثم تم الأخذ باستراتيجية تقسيم العالم إلى مناطق حيوية حيث تتولى كل منطقة قوة إقليمية أو أكثر تحت رعاية عن بعد من الولايات المتحدة الأمريكية أو ما عرف باستراتيجية "القيادة من الخلف" تحت إدارة أوباما. وهوما خلص إليه أستاذ علم السياسة الدولية في جامعة بريستول "ريتشارد ليتيل" بأن هناك:"صعوبة بالغة على الولايات المتحدة الأمريكية ــ وأي قوة ــ أن تحقق، في القرن الواحد والعشرين، أي انتصار...إلا في ظل شرعية الإجماع الذي يعكس توازن القوى التوافقي"،(راجع كتاب:توازن القوى في العلاقات الدولية)...وهي الإشكالية التي ظهرت جلية في أكثر من ملف سياسي تعذر حسمه خاصة مع صعود قوى وسيطة دولية وإقليمية على مستوى العالم...ووصل التراجع الأمريكي إلى الذروة مع ادارة ترامب.
وتزامن مع هذا التراجع الأمريكي أن شهد مطلع العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين تمددا واسع النطاق لما وصفناه بالحركات المواطنية القاعدية: الاحتجاجية، والمطالبية، والخضراء، والراديكالية، والشعبوية، والقومية،...،إلخ، من خارج المؤسسات السياسية التقليدية لتعبر عن "غضب شعبي"، بدرجات متفاوتة، في شتى بقاع الأرض دون استثناء...
إضافة إلى ما سبق، لابد من الإشارة إلى توافق الكثيرين على إخفاق المؤسسات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة من تلبية تطلعات الشعوب والدول والمجتمعات المختلفة.
ومن محصلة ما سبق: أولا: الارتباك الأمريكي، وثانيا: تنامي الاحتجاجات المواطنية، وثالثا: الفشل المؤسساتي الدولي، وصل العالم، مع منتصف العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، إلى حالة من الاضطراب الكبير فاقمها فشل النموذج الاقتصادي الذي فرض قسرا منذ 1980. ما أدى إلى أن ينتبه زمرة من المعنيين بأمر الكوكب إلى ما وصلت إليهالمنظومة الدولية من أحوال مؤلمة. ما دفع البروفيسور "جون مارشيمر"أن يصفها في مجلد عمدة "بالتراجيديا"؛قاصدا بها "سياسات القوى العظمى". كما دعت البروفيسور"مايكل كوكس"(مدير مركز أفكار ــ كلية لندن للاقتصاد) أن يلفت نظرنا في تقديمه للكتاب المعتبر:"إعادة النظر في النظام العالمي الجديد" ــ 2016؛ إلى حاجة الإنسانية "لتبني طرائق جديدة في تدبر أحوال العالم"(الكتاب من تأليف أستاذ العلوم السياسية الدانماركي"يورجسورنسن" وترجمه مطلع هذه السنة في سلسلة عالم المعرفة الأستاذ "أسامة الغزولي").
على هذه الخلفية يمكن أننتناول ملف "الإيكونوميست" الهام الذي يبلور الجدل الدائر منذ سنوات حول النظام العالمي الراهن حيث يقاربه منطلقامن الآتي:
أولا: حاجة المنظومة الدولية إلى مراجعة تاريخيةللسياق العالمي الراهن على مستوى كل من:الدول والمجتمعات. ذلك لأن الأمر يحتاج إلى إعادة النظرعلى جميع الأصعدة: الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والثقافية، والبيئية، والصحية. خاصة أن الواقع الذي تشكل في إطاره المشروع العالمي لدول/مجتمعات المنظومة العالمية منذ 75 عاما قد طالته الكثير من التغيرات في موازين القوى الدولية. حيث يشهد العالم صعودا لقوى دولية جديدة بالإضافة إلى عدد غير قليل مما يمكن وصفهم بالقوى الدولية الوسيطة. فلم يعد العالم ــ بعد ــ في زمن الحرب الباردة/النظام ثنائي القطبية، أو ما بعدها: أي زمن الإمبراطورية/القوة العظمى الوحيدة، أو حتى في ما أطلق عليه البعض ــ مؤقتا ــ الحرب الهادئة...
ثانيا: التراجع الأمريكي عن الوفاء بأية التزامات تجاه المعاهدات الدولية التي تخص خير الإنسانية من جهة. ومن جهة، الاضطلاع بالمسئوليات المنوط بها من واقع العضوية في المؤسسات الدولية.وهو ما تجلى بامتياز مع الإدارة الترامبية التي دفعت إلى الانسحاب من عديد الاتفاقيات الدولية، وعدم الوفاء بالتزاماتها المالية، والتشكيك في قدرات المؤسسات الدولية المختلفة التي وظفتها على مدى عقودها لتحقيق مصالحها الذاتية. وعدم إدراك أن إصلاح المؤسسات الدولية ــ التي طالها: الترهل والبيروقراطية بالفعل ــ لا يكون بالانسحاب منها وإنما بالتضافر الدولي من أجل إعادة هيكلتها وتفعيلها ورفع قدرتها على مواجهة الأعباء الكوكبية المتزايدة بفعل "الجائرة الرأسمالية الاحتكارية" الممتدة لعقود التي صادرتمشروع السلام العالمي.والتي جاءت "الجائحة الفيروسية" لتعري كل سواءته. وتشير إلى الغياب المريب للتعاون الدولي بين دول المنظومة الدولية وترك كل منها تواجه الجائرة/الجائحة بمفردها وفق ظروف ووضعية كل دولة.
ثالثا: عدم الاعتراف بأن عالما جديدا يصارع من أجل الاعتراف به. ذلك لأن العالم القديم ينازع من أجل البقاء. إضافة إلى تشويشه على أية محاولة لفهم طبيعة وسمات العالم الجديد وخاصة شبابه وجمهوره...
وعليه كانت "الفوضى"...ونتابع تقديم سيناريوهات المستقبل المحتملةلما بعد فترة "اللانظام"...