’’كاتب النهايات‘‘؛ أو ’’مؤلف النهايات‘‘؛ هو الباحث الأمريكي الشهير "فرانسيس فوكوياما" (1952)، وهو الوصف الذي أطلقناه عليه ــ مبكرا ــ لأن كلمة "النهاية" تحتل مكانا أساسيا في عدد من عناوين ومحاور أعماله المثيرة للجدل...
فهو صاحب المؤلف الأشهر "نهاية التاريخ"( 1989)، كتب دراسة هامة عنوانها:"نهاية الريجانية/الليبرالية الجديدة" (2009) عقب الأزمةالمالية الكارثية في 2008. إضافة إلى كتابه "مستقبلنا ما بعد الإنساني"(2002)، الذي تناول فيه "عواقب الثورة البيوتكنولوجية على الإنسان المعاصر". ما دفع العالم الراحل أحمد مستجير، الذي قام بترجمة الكتاب إلى العربية(سطور ـ 2002)، أن يختار له عنوانا هو: "نهاية الإنسان".
يطل علينا "فوكوياما" من خلال الملف الهام الذي تخصصه دورية "الفورين أفيرز" الأمريكية الشهيرة(عدد يوليو/أغسطس ــ 2020)، تحت عنوان "العالم ما بعد نهاية الوباء/الجائحة"، حيث يلقي الضوء على التداعيات السياسية للأزمة وأثرها المستقبلي على دول العالم. فلقد "اختطف" الوباء دول ومجتمعات الكوكب فيما عدا حفنة قليلة من الدول. بالرغم التحذيرات التي أطلقتها منظمة الصحة العالمية والكثير من الجهات قبل سنوات حول خطر وباء "الكورونا"/"الكوفيد ــ19". كما كشف عن الكثير من "الخروقات" و"الثغرات"، ليس فقط في الأنظمة السياسية والسياسات التي تتبناها وإنما في البنى المجتمعية. ما يعني أن النجاح في عبور أزمة الكورونا ليس نهاية المطاف. حيث سيكون أمام دول العالم الكثير كي تقوم به لتجاوز ما عرته الأزمة الراهنة، وهو كثير، من جهة. ومن ثم تجنب أية اخفاقات مستقبلية...لماذا؟ وكيف؟
يستهل "فوكوياما" دراسته بعبارة هامة يقول فيها: "الأزمات الكبرى لها تداعيات كبرى". ويدلل على ذلك من خلال استدعاء أزمات كبرى حلت بالبشرية تاريخيا مثل: أولا: فترة الكساد الكبير التي وقعت قبل تسعين سنة ــ تقريبا ـت أدت إلى الانعزالية، والفاشية، والحرب العالمية الثانية. ثانيا: أزمة التدمير الارهابي لبرجي التجارة العالمية قد دفعت الإدارة الأمريكية إلى تعامل فاشل مع كل من: إيران، والراديكالية الدينية. ثالثا: أزمة 2008 المالية التي دفعت إلى حالة عارمة من الرفض الشعبي للسياسات التي لم تف بوعودها "في تساقط الثمار"(سياسات الليبرالية الجديدة) على مدى عقود لعموم مواطني الكوكب. وهو الرفض الذي تمثل في "الحراكات المواطنية القاعدية" الرافضة للمؤسسات السياسية المختلفة.
على هذه الخلفية، يؤكد "فوكوياما" أن "الكورونا/الكوفيد ــ 19" سوف تكون له تداعيات كثيرة شأنه شأن الأزمات التاريخية المذكورة. من هذه التداعيات يرصد"كاتب/مؤلف النهايات" إلى ما يلي: أولا: من الناحية الاقتصادية؛ سوف يتعرض النظام الاقتصادي إلى أزمة ممتدة. ما يعني تدمير وخراب كثير من الصناعات والقطاعات الاقتصادية. ولن ينجو من هذا المصير سوى الشركات العملاقة المسيرة بالتكنولوجيا الرقمية. ما يعني تفاقم البطالة والركود،...،إلخ. ثانيا: من الناحية السياسية؛ قد تستدعي أزمة "الكورونا" ــ لوقت ــ حالة تضامنية مجتمعية خاصة لدعم الفقراء لمواجهتها. إلا أن امتداد فترة الوباء سوف يرافقه ــ بالضرورة ــ فقدان للوظائف، ركود طويل، عبء غير مسبوق بسبب الديون. ما يخلق ــ حتما ــ توترات وارتدادات سياسية عنيفة.ثالثا: من الناحية العالمية؛ سوف يميل توزيع القوة العالمي نحو شرق آسيا خاصة وأن دول هذه المنطقة قد أبلت بلاءً حسنا في مواجهة الجائحة مقارنة بدول أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. وفي هذا المقام يجري "فوكوياما" مقارنة في غاية التكثيف بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية ويقول في عبارة بلورية واضحة ونقية عن الرئيس الأمريكي نصا: بأنه" صدر وأثار الانقسام المجتمعي أكثر مما ارتقى بالمجتمع نحو الوحدة، كما سيس توزيع المعونة، واختلف مع حكام الولايات بدلا من التعاون معهم في وقت الأزمة، وأخيرا هاجم المؤسسات الدولية بدلا من تحفيز وتجميع الأطراف لمجابهة الجائحة". وهي كلها أمور كانت على النقيض مما جرى في الصين. ما أدى إلى تزايد عدد المصابين والوفيات.(نشير إلى أن وقت كتابة المقال هناك 23 ولاية من التي طبقت فتحا تدريجيا قد عادت فيها نسبة الإصابات "بالكورونا" مرة أخرى).
في ضوء ما سبق، يبدي "فوكوياما" قلقه من الأداء المرتبك في إدارة أزمة "الكورونا" في الولايات المتحدة الأميركية من أن تتعرض لما يلي: أولا: الانحدار. ثانيا: تآكل النظام الليبرالي الدولي. ثالثا: صعود الفاشية...ولكن...
يستدرك "فوكوياما"؛ بأنه وبالرغم من السيناريو السابق، إلا أنه ومن خلال إدراك الدروس المستفادة من هذه الأزمة الراهنة يمكن الحيلولة دون وقوع هذه التداعيات المؤلمة. ومن ثم تحقيق: أولا: ميلاد جديد لليبرالية الديمقراطية وهو النظام الذي استطاع أن يبدى مرونة في استيعاب الصدمات وأن يجدد نفسه أكثر من مرة. ثانيا: تجديد مؤسسات الدولة والمجتمع على السواء.ثالثا: مراعاة الفجوات المجتمعية المتعددة التي كشفت عنها الجائحة مثل: الفجوة الواسعة بين الفقراء والأغنياء، وبين المواطنين والدولة،...،إلخ.
ولا يجد "فوكوياما" ــ "فوكوياما" ــ مفرا من أن يقول بوضوح بضرورة "تنحية الأشكال الحادة (الفجة) لليبرالية الجديدة، كذلك أيديولوجية حرية السوق"(This might put to rest the extreme forms of neoliberalism, the free – market ideology)؛ نعم "فوكوياما"...شريطة رفع قدرة الدولة واستعادة ثقة المجتمع من خلال قيادة فعالة...
إلا أن تفاؤل "فوكوياما" المشروط لا يعني أن التعافي من التداعيات سوف يكون سريعا. وإنما سيأخذ وقتا غير قصير، وسيحتاج إلى جهد كبير. خاصة وإن الإدارة الأمريكية الجديدة ــ أيا كان لونها ــ سوف تستلم استقطابا مجتمعيا حادا، ودولة كانت قيادتها في خصومة مع مؤسساتها طول الوقت...
إن ما طرحه "فوكوياما" في ظني هام للغاية...وما سيطرحه آخرون من أفكار سوف يكون موضع نقاش ممتد في الاخل الأمريكي وخارجها...نتابع...