كانت واقعة الحادى عشر من سبتمبر مروعة بكل المقاييس الإنسانية وكانت لها الكثير من التداعيات التى تجاوزت الداخل الأمريكى إلى الخارج الكوكبى فى محاولة إعادة تشكيله وفق تصورات تراها الإدارة الأمريكية منفردة بعد أن بدأـ تتحرك عمليا بنزعة إمبراطورية فى الفضاء العالمى باعتباره مساحة فضاء عليها أن تعيد تهيئتها وتنظيمها وترتيبها. ولعل من أهم التداعيات التى كشفت عنها الواقعة المروعة هو هذا التيار الذى ساهم إلى حد كبير فى التضخيم من هذا النزوع الإمبراطورى لدى الإدارة الأمريكية الحالية وهو التيار الذى اصطلح على تسميته “بالمحافظين الجدد “Neo
Conservatives المتحالف مع اليمين الدينى الذى استطاع أن يصل إلى الحكم فى يناير من عام 2001مؤكدا تغيير الخريطة الأيدولوجية الأمريكية حيث أصبحت “المحافظة” Conservatism فى قلب هذه الخريطة تبدو وكأنها هى التيار الرئيسى الفكرى فى هذه الخريطة وعلى جوانب هذا التيار الاتجاهات الليبرالية الأخرى. وفى كل الأحوال فإنه من الضرورة دراسة هذا التيار بما يمثل من توجهات ايدولوجية تتسم فى جوهرها بامتلاك الحقيقة المطلقة سياسيا ودينيا بتحالف اليمين الدينى.
وقد استطاع هذا التيار أن يوجد خللا فى بنية الحزب الجمهورى التقليدية بل واستوعب عناصر من الحزب الديمقراطى كانت ذات توجهات اجتماعية بل الأكثر من ذلك إعادة توظيف بعض العناصر “التروتسكية” نعم التروتسكية بما تحمل من أفكار لصالح اليمين المحافظ الجديد حيث “الثورة الدائمة” وتعميم النموذج الأمريكى عالميا بمساندة النخب المحلية المستنيرة أنها طبعة جديدة من التروتسكية فالجيل الأول من المحافظين الجدد مثل أيدفنج كريستول وبورنهام قد مروا بالمرحلة التروتسكية (يمكن الرجوع إلى “حركة المثقفون المحافظون فى أمريكا لجورج ناش الصادر عام 1998”.
على الجانب الأخر تأتى أهمية هذا التيار فى انتشاره المؤثر ليس فقط فى جسم الإدارة الأمريكية الحالية وإنما فى بنية المجتمع الأمريكى بغض النظر عن النسبة التى يمثلونها حيث أن التأثير يأتى من القدرة العالية على التنظيم وعلى نشر الأفكار فلديهم العديد من المؤسسات المدنية والحكومية مثل: مؤسسة التراث ومؤسسة المشاريع الأمريكية مركز سياسة الأمن والمؤسسة اليهودية لشئون الأمن القومى كذلك العديد من الدوريات مثل: كومنترى وويكلى استندارت وناشيونال ريفيو هذا بالإضافى إلى العديد من المشروعات البحثية مثل مشروع القرن الأمريكى الجديد هذا عدا كثير من المراكز البحثيةوالأوراق والتوجهات التى تصل إلى دوائر صنع القرار مباشرة. ويشار هنا إلى أمرين الأول العلاقة بين عناصر هذا التيار والمؤسسات المالية والمجمع العسكرى الصناعى والتكنولوجى لذا فإنه ليس غريبا أن يصبح البنتاجون معقلا لهذا التيار, الأمر الثانىهو القدرة على تفريخ أجيال جديدة تتسم بالتعليم المتميز والكفاءة السياسية وغزارة الإنتاج الفكرى الذى يجب أن يقرأ بعناية خاصة أنه يمس بالإضافة إلى أمريكا العالم أجمع بما فيها شئون أساسية تخص واقعنا فى المنطقة.
أن وصول هذا التيار إلى الحكم مع إدارة الرئيس بوش الابن يعد المحطة الثانية له كانت الأولى إبان حكم الرئيس ريجان وقد حدث الانقطاع إبان فترة حكم كلينتون ولكن لم يحدث أن انقطع الضغط من أجل فرض هذه الرؤى والسياسات.
من الضغط إلى المشاركة فى الحكم
مع مطلع السبعينيات كانت أمريكا تموج بالكثير من التغيرات ذات الطبيعة الإشكالية والتوجهات الاجتماعية. ونذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر مجموعة من أربعة أشخاص شكلوا البرنامج المحافظ من خلال تأسيس مؤسسات مدنية: بول فيريش الذى أعاد تشكيل الكثير من المؤسسات المحافظة مثل مؤسسة التراثHeritage Foundation وهوارد فيليب الذى أسس التجمع المحافظ Conservation Caucus عام 1975 والتى سرعان ما استقطبت مئات الألوف من المساهمين خلال خمسة أعوام وأكثر من 250 فرعا وجون دولان الذى رأس اللجنة القومية المحافظة للعمل السياسى NCPAC والتى مارست عملها جماعة ضغط فى مواجهة التوجهات الليبرالية وأخيرا ريتشارد فيجيرى صاحب الدورية الشهرية Conservative Digest. وانطلقت مئات المؤسسات المحافظة على المستويين الفكرى والجماهيرى. ويذكر أن هذا التيار المحافظ استطاع فى هذا التوقيت أن يبلور رؤاه بحيث لاتقتصر فقط على الجانب الاقتصادى حيث كان يركز اليمين القديم Old Right ليمتد إلى الثقافى والاجتماعى وتحرك هذ التيار فى كل الاتجاهات ضاغطا على مؤسسة الرئاسة واستطاع الفوز بكثير من المقاعد فى الكونجرس والسيطرة على العديد من الولايات.
التحالف بين المحافظين واليمين المسيحى
تحالف تيار “المحافظون الجدد” مع تيار المسيحى الجديد” New Christian Right والذى تميزه عن تيار المسيحية الجديدة New Christianity (والذى يتسم بالنفتاح والقدرة على استيعاب المتغيرات)والذى بدأ ينتشر على المستوى القاعدى مؤسسا الكثير من المؤسسات والكيانات ذات الطابع المدنى حيث يوظف المدنى فى إطارها ( وهنا أيضا يهمنا أن نميز بين الكنائس وحركة اليمين الدينى فالأولى كونها الدين كونها مؤسسات دينية والثانية حركات دينية تمارس السياسة تحت مظلة المجتمع المدنى وتلعب دورها كجماعة ضغط وأخيرا نجحت فى دعم مرشحين لها وأن تصل بهم إلى مواقع مؤثرة). ونذكر هنا أهم هذه الكيانات: الرابطة الوطنية للإنجيليين ومنظمة الأغلبية الأخلاقية والمائدة المستديرة الددينية ومنظمة التحالف/الائتلافى المسيحى. خلاصة القول أن التيارين قد تلاقيا وتحالفا حيث جمعتهما رؤية واحدة لأمريك والعالم إلا وهىأن أمريكا “وطن استثنائى تاريخى” لابد من أن يسود ويهيمن ولا بأس من ممارسة القوة فى سبيل ذلك.
ومن الأهمية أن نشير إلى أن عددا كبيرا من الأسماء التى تتردد الآن فى إدارة بوش الابن قد بدأ صعودها السياسى خلال فترتى حكم ريجان. وإذا كان انتخاب كلينتون عام 1992 قد بدا وأنه انقطاع لمسيرة المحافظين الجددإلا أنهم كانوا يمثلون الأغلبية فى الكونجرس منذ عام 1994 واستطاعوا تمرير كثير من السياسات والتشريعات التى تعبر عن رؤيتهم وساهمت إلى حد كبير فى التأثير على الواقع الأمريكى الأمر الذى دفع أحد الباحثين المنتمين لهذا التيار أن يصف ما يحدث فى أمريكا بالثورة المحافظة The Conservative Revolution كونها الحركة التى أعادت تكوين أمريكا The Movement That Remade America أو بالفعل فإننا مع نهاية القرن العشرين وبدء القرن الحادى والعشرين نحدد خريطة أيدولوجية جديدة ورؤى جديدة تميز الواقع الأمريكىوإدارة أمريكية جديدة تصل إلى سدة الحكم مكللة مسيرة تيار المحافظين الججد المدعوم دينيا من جهة وعسكريا من جهة أخرى.
الرؤية الحاكمة لإدارة بوش الابن
منذ اليوم الأول لتسلم بوش الابن مهام الرئاسة فى يناير 2001 نجده يتحرك فى اتجاهين داخليا حيث تنمو سياساته إلى ما يعبر عن المحافظين الجدد من خلال تشريعات ضرائبية لاتخدم إلا القلة.
وفى الوقت نفسه نجد الإدارة الحالية تدعم المنظمات المعروفة بتوجيهاتها الدينية والمحافظة على حساب المدنية والليبرالية. أما عن الاتجاه الثانى ألا وهو الخارجى فإننا نجد تحركا متعدد على المستويات العسكرية والاقتصادية والقيمية: الثقافية والدينية يصب فى اتجاه الهيمنة التى تستعيد ثلاثية العسكرى والتاجر والمبشر بحسب سيرج لاتوش التى رافقت الحركات الكشفية الأوروبية منذ القرن الخامس عشر أو مانسميه فى الحالة الأمريكية ثلالثية الثروة والدين والقوة. وتكفى مراجعة كم الثروات الطبيعية التى تسيطر على أمريكامباشرة أو حجم القوات ونوعية الأسلحة المستخدمة وحركة التبشير التى كشفت عنها مجلة التايم الأمريكية فى طبعتها الأمريكية بتاريخ 30يونيو الماضى مدعمة بالأرقام والخرائط والموجهة ليست فقط للمقامرين فى الدين بل إلى أبناء المسيحية الشرقية وهو أمر حذرنا منه كثيرا.
إن الرؤية الحاكمة للإدارة الحالية تتسم “بالمانوية” أو “الثنائية” المباشرة فالعلاقة بين أمريكا والعالم هى العلاقة بين الحضارة والبربرية أو بين الخير والشر أو بين النموذج الأمريكى الذى يجب أن يحتذى به ونموذج غير أمريكى ضال.
ويتسابق أنصار التيار المحافظ فى الإعلان عن “أمريكا الأمبراطورية” فها هو وولفوويتز يقول: “إنه زمن أمريكا القوة العسكرية التى لامنافس لها وزمن الأمل الاقتصادى النفوذ الثقافى”.
فى هذا المقام تجدر الإشارة إلى تفرقة هامة لوالرشتاين بين الاقتصاد العالمى والإمبراطورية حيث يقول:
“….. هناك نوعان من النظام العالمى الإمبراطورية العالمية حيث توجد وحدة سياسية واقتصاد عالمى بدون وحدة سياسية”.
إن العولمة التى بدأت فى التسعينيات بعد الحرب الباردة كانت نوعا من الدمج الاقتصادى للعالم بشروط أمريكية من دون وحدة سياسية. أما الإمبراطورية فإنها بالإضافة إلى ماسبق تحقق الوحدة السياسية حيث الامبراطورية تعنى الامتداد والضم وإن العالم لايتكون من دول فى إطار مجتمع دول وإنما الامبراطورية تعنى مساحة جغرافية ممتدة يسكنها رعايا وتتسم هذه المساحة بأنها سوق وما الدول إلا أسواق لحركة التجارة والتدفق المالى الخاص بالمبراطورية. وهنا تطالعنا أفكار أيرفنج كريستول أحد المؤسسين لتيار المحافظين الجدد فى كتابه المرجعى الهام”. المحافظة الجديدة: السيرة الذاتية لفكرة” والتى تعكس مدى ماحدث من تغييرات جذرية فى الخريطة الأيدولوجية الأمريكية وما تعبر عنه اجتماعيا فالاستجابة القاعدية لتيار المحافظين الجدد المتحالفة مع اليمين الدينى يعكس الاتجاه الذى تسير فيه الولايات المتحدة الأمريكية لقد كان المجتمع الأمريكى عقب الحرب العالمية الثانية ينتظم أيدولوجيا فى اتجاهات ثلالة كبيرة: الليبراليون والمحافظون والراديكاليون.
أما الآن- وبحسب العديد من الدراسات الحديثة- نجد تراجعا كبيرا للتيارين الليبرالى والراديكالى لحساب التيار المحافظ الذى نجده يتهدد. الأمر الذى يثير السؤال إلى أى حد سوف تقبل التيارات الأخرى تحدى تمدد هذا التيار أنها إشكالية أمريكية ولاشك. إلا أنها تهمنا بل وتمسنا بشكل مباشر بما يعنى ضرورة العناية بها…. والواضح إلى الآن أنه طالما بقيت أمريكا متأثرة بواقعة 11 سبتمبر كلما بقى هذا التيار نشيطا وفاعلا.