(1) «إياك والظلم»
كان أبى دوما يشدد أن أتوخى «العدل»، وكانت حياته نموذجًا عمليا للإنصاف، وبالرغم من انتمائه الاجتماعى للطبقة الوسطى المدينية (نسبة للمدينة) الميسورة إلا أنه اختار أن يعمل فى الخمسينيات أقصى جنوب البلاد (فى مدينة كوم أومبو) فى ظروف قاسية للتخفيف عن آلام المحتاجين. وعندما عمل لاحقا فى إحدى شركات الأدوية وكلف بمسؤولية عيادة عمال المصنع ــ إلى جانب مسؤوليته عن صياغة النشرة العلمية المرفقة بالأدوية المنتجة ــ قرر أن يغلق عيادته الخاصة من أجل الصالح العام. ما يعصمه من الظلم: «ظالما أو مظلوما».
(2) سر أبى
وذات مرة ــ مطلع السبعينيات ــ سألته عن تشديده على اجتناب الظلم. وجدته يقوم متجها إلى مكتبته الممتدة، حيث مد يده إلى مكان يعرفه جيدا ضمن أرفف المكتبة الخشبية القديمة، وجاء بكتاب قديم من الحجم المتوسط. وقال السر فى هذا الكتاب، وزاد اطلع عليه، ويمكن أن ندردش حول مضمونه تفصيلا لاحقا... الكتاب كان «قرية ظالمة» للدكتور محمد كامل حسين (1954)... ومن خلاله عرفت سر أبى... انكببت على قراءته لفترة. ومن حين لآخر كنت أراجع مع أبى ما انتهيت من قراءته. واللافت لى ــ آنذاك ــ هو أننى كنت أجده حاضر الذهن لمحتواه... ومع كل جولة من جولات النقاش. ثم، مع مرور الزمن والتقدم فى العمر، ما إن كنت أنتهى من قراءة الكتاب، لا يقل عن ثلاث مرات ــ مكتملة ــ خلال الستين، وبالطبع مع الترقى النوعى فى مقاربتى لقراءة الكتاب،...كنت أشعر أن «قرية ظالمة» يزيدنى «أعمارا على عمرى»... كما أنه فسر لى التزام أبى الصارم بـ«العدالة» كقيمة عليا حاكمة. ومبدأ حياتى يجب الاعتصام والاحتماء به... كذلك سر الكتاب...
(3) اعرف العدل فاتبعه والظلم فاجتنبه
«قرية ظالمة» عمل مركب متعدد المستويات. فهو أولا: مصنف كعمل أدبى روائى. يأخذ يوم الجمعة العظيمة ــ يوم صلب السيد المسيح ــ مجالا لأحداث الرواية، حيث يكشف موقف كل الأطراف من هذا الحدث الجلل: التلاميذ، رجال الحكم، أهل القرية بألوان الطيف المتنوعة، المجدلية، رجال الدين...، إلخ، من خلال الحوارات المجتمعية، والخاصة، وجلسة الحكم، وثانيا: يمكن أن يجد القارئ نفسه أمام نص فلسفى عميق. وثالثا: يمكن التعاطى معه كنص رفيع المستوى فى الفكر السياسى. ففى هذه الرواية/النص قام الأستاذ الدكتور محمد كامل حسين (1901 ــ 1977، أستاذ الطب ومؤسس أول قسم لجراحة العظام فى مصر، وعضو مجمع اللغة العربية، ورئيس المجمع العلمى المصرى، وصاحب عدد من المراجع العلمية التاريخية، الحائز على جائزة الدولة التقديرية فى 1965، كما دعا فى نفس العام من «يوثانت» الأمين العام للأمم المتحدة ضمن سبع شخصيات عالمية لإلقاء محاضرات بجمعية الأمم المتحدة احتفالا بسنة التعاون الدولى آنذاك)...أقول فى «قرية ظالمة» قام الدكتور كامل حسين بعملية تضفير بين الأبعاد الثلاثة التى وصفت بها النص: الأدب، والفلسفة، والسياسة. والمحصلة أن المرء يجد نفسه أمام نص من الوزن الثقيل يدور حول قيمة العدالة من حيث: أولا: الحبكة الروائية التى تعكس الدوافع البشرية والنوازع الإنسانية الحاكمة فى التمسك بالعدل أو النزوع نحو الظلم للطبقات والشرائح الاجتماعية/المجتمعية المختلفة. ثانيا: المبادئ الفلسفية الحاكمة للتفكير والضمير والنشاط الإنسانى أو ما أطلق عليه: القوة الحيوية وقوة العقل وقوة الضمير. ثالثا: الأفكار السياسية المنظمة لحراك القوى المتنوعة فى المجتمع مثل: العلاقة بين ما أطلق عليه الفضائل المدنية والفضائل العقلية والفضائل الدينية وماهية حدود التفاعل والتناقض بينها... هذا بالإضافة إلى إثارته لكثير من الإشكاليات من عينة: الوطنية، والعنف، والخيانة، الحق، القوة، نصرة المظلوم، والخنوع، التنوع الثقافى، دوائر حب الإنسان/المواطن، إيجابية وسلبية الإنسان/المواطن،...،إلخ...
(4) الضمير الإنسانى العادل
إنه نص بديع يطلق الطاقة الكامنة للضمير الإنسانى لضبط القوة والحق من الانفراد بتوجيه المرء أو «تكون قوة الضمير مانعة لهما من الشطط على أن يكون لكل منها ميدان واسع تعمل فيه، يتسع لاختلاف مشارب الناس... ومدى قبولهم للتأثر بما فيها من خير»...ما يمكنهم من إقامة المجتمع العادل... وعيش عمر عادل...