(1)
«الفن الحقيقى هو الذى ينحاز للناس ويكون دافعًا لهم للتغيير».
(2)
عشت شهرا كاملا مع كتاب عنوانه: «33 ثورة فى دقيقة» «33 Revolutions Per Minute»؛(800 صفحة ــ 2012)، للباحث والإذاعى والكاتب الصحفى الثقافى لدورية الجارديان الأسبوعية دوريان لينسكى والذى قام بإصدار كتاب مطلع هذا الشهر عن سيرة جورج أورويل. يتناول الكتاب ما وصفه بـ«تاريخ الأغانى الاحتجاجية» فى الغرب: الأمريكى والأوروبى، فى الفترة من 1939 إلى 2008.. فلقد ولدت أغانى الاحتجاج الشعبية فى لحظة الاستنفار الأوروبى تجاه هتلر، وانتصار الطاغية فرانكو فى الحرب الأهلية الإسبانية، وصدور عناقيد الغضب لشتاينبك ومعها الكثير من الأعمال الأدبية التى تناولت ما يعرف تاريخيا بـ«الكساد الكبير» أو الأزمة الاقتصادية الأبرز للرأسمالية فى القرن العشرين. بالإضافة إلى الكثير من الإشكاليات المجتمعية التى شكلت ملامح اللحظة التاريخية والتى تشير إلى محنة حضارية كبرى تواجهها البشرية. فى هذا السياق انطلقت «بيلى هوليداى» المغنية السمراء ذات الـ23 ربيعا تغنى بكلمات مفاجئة حول «الأجسام السوداء المتأرجحة على أفرع الأشجار فى الجنوب بفعل الإعدام دون محاكمات» إنها «الثمار الغريبة»«Strange Fruits».. لم تكن الأغنية مجرد نص منغم قد يستخدم فى التعبير عن محنة السود وسطوة البيض فى مظاهرة. بل كانت تعبيرا فنيا من «لحم ودم» يعبر عن أحوال الناس فى الواقع. ويجسد بإبداع أدبى ونغمى عمق المشهد الاجتماعى المأساوى فى لحظة تاريخية. لذا وصفتها مجلة التايم الأمريكية عام 1999 «بأغنية القرن».. ذلك لأنها كانت فاتحة لتيار غنائى عينه على آمال وآلام الناس وبخاصة المهمشين منهم.
(3)
استطاعت بالفعل أغانى هذا التيار أن تكون قادرة ليس على التأثير فقط بل على دفع الناس على تغيير الواقع الأليم فى دقائق معدودات هى مدة زمن غناء الأغنيات. لذا وصف الكتاب الأغانى «بالثورات» لأنها كانت تدفع من يستمعون لها إلى التحرك نحو أوضاع أفضل. ويسجل لنا المؤلف أن هذه الثورات «الغنائية» كان عددها 33 ثورة من 1939 إلى 2008 قادها مغنون متعاقبون وفرق غنائية متتالية خلال خمس مراحل كما يلى: أولا: من 1939 إلى 1964؛ جاء بعد بيلى هوليداى، وودى جوثرى، وفرانك هاميلتون، بيت سيجر، وبوب ديلان الذى حاز ـ مؤخرا ــ على نوبل للآداب، ونينا سيمون، بأغان من عينة: «سادة الحرب»، «الأرض أرضك»، «تمسك بمسيسيبى فستظل صالحة للفائدة» (حيث شهدت المدينة أحداثا عنصرية بشعة تجسدت فى العديد من الأفلام السينمائية). ثانيا: من 1965 إلى 1973؛ جاء جيمس براون، وإدوين ستار، ستيفى وندر، وبن كروسبى، وغيرهم، وأبدعوا خلال هذه المرحلة أغانى مثل: «قلها بصوت عال: أسود وأفتخر»، «إنها الحرب»، «الحياة من أجل المدينة»، و«الثورة لن تكون متلفزة»،...، إلخ. ثالثا: من 1973 إلى 1977؛ حيث يرصد المؤلف انتشار هذا التيار خارج الغرب إلى تشيلى وجامايكا ونيجيريا. ومن رموز هذه المرحلة: فيكتور جارا، وماكس روميو، بأغانى: «البيان»، و«زومبى»،.. رابعا: من 1977 إلى 1987؛ وهى مرحلة شهدت الكثير من الفرق ومن أهم أغانى هذه الفترة: «ما بين الحروب، والشغب البيض، ونلسون مانديلا، وما كارثى يخرج من قبره» (ما كارثى الذى كان يطارد المثقفين والمبدعين بتهمة الشيوعية). وأخيرا: من 1988 إلى 2008؛ مع فترة المد النيوليبرالى الاقتصادى والسياسى، واليمين الدينى المحافظ، والذى انتهى بالأزمة الاقتصادية الأسوأ فى تاريخ الرأسمالية انتشرت الأغانى التالية: قاوم السلطة، قانونهم، الأمريكى الأحمق،...، إلخ.
(4)
ويستحضر المؤلف لقطة لافتة لمشهد فوز أوباما برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية كأول رئيس أسود فى تاريخها. حيث ألقى أوباما خطابا غاية فى الأهمية. كان مما ورد فيه الكلمات التالية: «لقد أتى التغيير إلى أمريكا، بعد وقت طويل طويل...».. ويعلق «لينسكى» بقوله بأن كلمات أوباما: «مستوحاة من أغنية من أغانى الاحتجاج كتبت قبل 45 عاما وغناها سام كوك». ومن ثم فإن المؤلف يحسب «أوباما» ــ بدرجة أو أخرى ــ ابنا للأغانى الاحتجاجية. وأن كثيرا من الشعارات التى تم استخدامها فى حملته الانتخابية قد استلهمها من هذه الأغانى.
(5)
إنه كتاب ممتع ونموذج فى الكتابة التوثيقية والتحليلية التاريخية لرصد إبداعات الشعوب وإنجازاتها. وكيف يمكن أن يكون الفن حقيقيا. والأهم يصبح «قوة» وسندا للمواطنين للتعبير والاستمتاع من جهة والضغط والتأثير من جهة أخرى. وذلك بصياغات تحمل أفكارا مبتكرة ونغمات نافذة تنطق بهمومهم وتطلعاتهم الحقيقية إلى النور.