يمكن اعتبار انتخاب رجل المال والأعمال «ترامب» نجاحًا للفاشية فى الاستفادة من الماكينة الديمقراطية فى إنجاح مرشح يعبر عن سياسة «اللا بدائل». بمعنى أنه «الخيار الوحيد» ولا توجد غيره خيارات أخرى. ومن ثم رؤيته هى المنقذ الوحيد لمشكلات الوطن والمواطنين..هذه هى الفكرة الرئيسية التى يطرحها الفيلسوف الفرنسى «آلان باديو»(82 عاما) فى كتابه «ترامب ـــ 2019» (فى الأصل محاضرتان ألقاهما فى نوفمبر 2016 فى جامعتى «كاليفورنيا وتافتس» بلوس أنجلوس وبوسطن على التوالى).. لذا يعتبر «باديو» الزمن الترامبى ما هو إلا تأسيس جديد لنوع من «الديمقراطية الفاشية» تعكس حال الداخل الأمريكى الذى يفور بالتناقضات تؤججها الترامبية بالتعالى والإقصاء..
(2)
وإمعانا فى الاقتراب من جوهر الحالة الترامبية يقدم «باديو» وصفا بليغا لها بأنها حالة من: «الشعبية الكاذبة» (Pseudo- Popular)؛ والذاتية المفرطة. والأهم الانخراط فى «خدمة الرأسمالية» أكثر من «خدمة المواطنين». ولا يمنع، ما سبق، أن يتم رفع شعارات شعبوية.. أن جوهر الحالة الترامبية «يتناقض» مع الحالة الديمقراطية المواطنية التاريخية.. وتعد تعبيرًا «نقيا» عن «الأحادية» الرافضة لأى «التعددية».. لقد انحرف «ترامب» ــ فى نظر «باديو» ــ عن التعددية الثنائية التاريخية السياسية الأمريكية التى تقوم على المنافسة بين الجمهوريين والديمقراطيين والتى كانت تعبر عن الصراع، بدرجة أو أخرى، عن صراع نسبى بين يمين ويسار على النمط الأمريكى. حيث رؤيته وسياساته تصب فى اتجاه «فاشى» و«قومى» و«عنصرى». وباتت هذه الصيغة وحدها فى الساحة. والأهم هو التشكيك فى مدى جدوى الديمقراطية والمواطنة. وقد كان يمكن القبول بذلك لو كان الديمقراطيون قد ساندوا تيار «ساندرز»، الذى يمثل النقيض الموضوعى «لترامب» على أن يكون منافسه الانتخابى وليس «هيلارى كلينتون». حيث يعد «ساندرز» النقيض الجدلى «لترامب»، والقادر على خلق حالة جدلية ثرية بالمعنى الفلسفى الدقيق من جهة. ومن جهة أخرى، حيوية سياسية جادة لتطوير المسرح السياسى الأمريكى العتيق. «فبيرنى ساندرز»، رغم أية ملاحظات، يمثل كتلة بازغة شبابية تريد أن تعبر عن يسار جديد ــ بالمعنى والمعيار الأمريكى ــ يسعى إلى الحداثة والانفتاح والمساواة والتمرد على الوحش الرأسمالى وتجديد البناء السياسى كليا. عندئذ كان سيصعب على «ترامب» الاستئثار والانحراف بالمسرح السياسى كما هو حادث الآن. خاصة أن «هيلارى كلينتون» يعتبرها «باديو» تنويعة «لترامب» ولا تتناقض معه كليا مثل «ساندرز».. عند هذه النقطة يتساءل «باديو» ماذا علينا أن نقوم به لمواجهة «الزمن الترامبى»؛ والأزمة الراهنة فى محاولة «إعطاء الظهر» للديمقراطية والتعددية وللشراكة المتساوية بين الهويات لصالح الفاشية والأحادية والهوية المتفردة والمتعالية..
(3)
«علينا أن نشرع فى بداية جديدة لأنه لا يمكن أن نستمر هكذا»؛ يقول «باديو».. ويستطرد: «لا يكفى أن ننتقد، أو ننكر الحالة الترامبية».. علينا أن نستعيد الحالة «الجدلية» التى تأسست عقب الثورة الفرنسية وأخذت فى التبلور من خلال الحركات السياسية الكبرى التى عرفتها الشعوب على مدى القرن التاسع عشر، وبقيت حاضرة وحية على مدى العقود الثمانية الأولى من القرن العشرين. وجاءت الليبرالية الجديدة لتقدم نفسها بديلا وحيدا دون غيرها وتُقصى غيرها من خيارات وبدائل. فلا يصبح أمام المواطنين إلا خيار واحد وبديل واحد. لا يحقق إلا حلم القلة منهم. وما «ترامب» إلا امتداد سلبى لهذه الحالة التى لحق بها الكثير من الإخفاقات والأزمات. إن زمن «ترامب» هو زمن يجسد «الخيار الواحد» الذى يعنى مسارا واحدا، وتوجها استراتيجيا واحدا، وسياسات واحدة، وكل ما سبق مآله الاختفاء والانحسار. من هنا لابد من إعادة تهيئة التربة من أجل البداية الجديدة.. بداية تتيح للكثرة المواطنية أن تختار ــ بحرية ــ بين البدائل. إنها العودة إلى «زمن الخيار الأساسى بين مسارات عدة» تكون فى حالة جدلية.