(1)
فى معرض حواره عما أطلقنا عليه «الحركية المواطنية الجديدة» فى أوروبا؛ قال الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسى «آلان تورين» (1925، مؤلف: «نقد الحداثة»، و«براديجما جديدة فى عالم اليوم»):
«إننا فى أوج مرحلة تفكك الديمقراطية الاجتماعية، ونخشى أن نكون قد تم اكتساحنا بالتيار الشعبى» (ترجمة عن الفرنسية طارق غرماوى)؛ أى أن هناك، بحسب ما كتبنا مبكرا، «حركية مجتمعية جديدة»... ولديه، فإن هذا «الاكتساح» يحمل دلالة إيجابية على أن «المواطنين» لديهم قدرات وإمكانيات تحتاج إلى فهم وإدراك من جهة. وفتح مساحات للتعبير والتجسيد، من جهة أخرى، بما يفيد الصالح العام. نعم قد تمارس الشعوب/المواطنون «أفعالا ضارة» فى وقت من الأوقات. ولكن علينا تفهم الأسباب التى تدفعها إلى ذلك. والاقتراب قليلا من طبيعة هؤلاء الفاعلين المجتمعيين. ولكن ما يعنينى، يقول «تورين»: «... وطالما أن المجتمعات، وفى القلب منها: الشعوب، قادرة على الفعل». أى حية، دائما، ولديها القدرة على الفعل الذى يتعاظم بصورة غير مسبوقة فى تاريخ الإنسانية. أو بحسب «تورين»: «اليوم نحن نشهد انفجارا للقدرة على الفعل المجتمعى»، من خارج المؤسسات القائمة... فإنه يتعين علينا إعادة الاعتبار للمجتمع وقدراته. وأخيرا إتاحة الفرصة للمواطنين جميعا دون تمييز وبفرص متساوية، إلى العمل المجتمعى الإيجابى البناء المفيد الذى يصب فى الخير العام...
(2)
ويلفت «تورين» النظر إلى فكرة مهمة تتعلق بفرنسا. ذلك أنها تاريخيا لم تعط اهتماما كبيرا لفهم المجتمع ويفسر، ما سبق، بقوله: «إن عمق المسألة يتمثل فى كون فرنسا لم تفكر أبدا فى القضية المركزية التى ندعوها بالمجتمع. لقد فكرت، دائما، فى إشكالية الدينى والعلمانى. وفى طبيعة الدولة وتماسكها وقدراتها ومدى وطنيتها. وجاء كل ذلك على حساب قضية «المجتمع». وبمرور الوقت صارت الوطنية تتساوى مع الشمولية، خاصة أن العالم، كما يقول «تورين»: «لم يعد مجتمع دول وطنية (مجتمع دولى)، ولكن أضحى مجتمعا معولما، حيث لا يوجد، مطلقا، نظام سياسى ممثل (للاجتماع)، ولكن سلطة شاملة وليست شمولية هى فى الوقت ذاته سياسية، واقتصادية، وثقافية» ... فى هذا المقام، تارة لحماية الدولة، وتارة لصالح استمرارية مصالح القلة الثروية العولمية وامتداداتها الاستثمارية فى داخل الدول. ومن هنا يحدث الصدام بين: «القلة ذات المصالح الخاصة وبين المجتمع بما يضم من غالبية المواطنين والصالح العام»... ما يوجب على الدولة الوطنية أن تتحرك كى تنظم ما سينشأ من صدامات ما بين المصالح الخاصة (للقلة الثروية المعولمة ومن يمثلها فى الداخل الوطنى) والصالح العام (للمجتمع خاصة على المستوى القاعدى)... وهنا تكمن العقدة... كيف؟..
(3)
وفى هذا السياق، تكمن العقدة... ذلك لأن الدول الوطنية ــ الشمولية ــ (بتعبير تورين)، تُستغرق ما بين حماية الدولة التى تستوجب الانغلاق النسبى. وبين الانفتاح على الاستثمارات العامة على حساب المجتمعية. وبالطبع، تتراوح درجة الإشكالية بحسب محصلة موقع كل دولة فى قوائم التصنيفات العالمية المختلفة. وفى كل الأحوال سيكون المجتمع هو دافع الأثمان الأول. خاصة أن المجتمعات فى اللحظة الراهنة تختلف كليا عن مجتمعات الأزمنة: الزراعية، والصناعية، وما بعدهما. فالمجتمعات الحالية تقدم ــ بحسب تورين» ــ «حقولا للقيم والفعل» غاية فى التعقيد والتركيب. ما يلزم فهمها. خاصة أن الفئة الغالبة فى هذه المجتمعات هى فئة الشباب بما يمثلون من رؤى وتصورات مغايرة كليا عن الأجيال السابقة لأسباب كثيرة. فهو كما نردد دائما، وصفه بأنه، «جيل ما بعد جوجل»... ويؤكد «تورين» فى حواره، وغيره فى كتابات متنوعة، على مسؤولية النخبة الفكرية فى فك شفرة المجتمعات الراهنة وما لحق بها من «حداثة مُفرطة» ــ بتعبير تورين ــ بهدف إعادة الاعتبار للمجتمع ومواطنيه على اختلافهم...