لن يتأتى لنا حل مواجهة ما أسميه «التوترات الدينية» لا «التوترات/ الأحداث الطائفية». ما لم نفهم بدقة ما طرأ على المجتمعات الأكثر توترا من «نزوع تدميرى».. بداية سوف يلحظ أى راصد أن المجتمعات التى تكثر فيها التوترات هى المجتمعات الأكثر فقرا، والأقل حظا فى التنمية سواء فى الريف أو فى الحضر. وهى أيضا التى شهدت المراحل المتتابعة «للنزاع الدينى» منذ عام 1970، والتى يمكن أن نوجزها كما يلى: أولا: «العنف المادى». وثانيا: «الاحتقان المزمن». وثالثا: «السجال الدينى». رابعا: «التناحر القاعدى». وهى مراحل قمنا بالتدليل عليها وتعريفها من خلال الأحداث المتعاقبة وتحولاتها النوعية.. وكان من الطبيعى أن تصل بنا محصلة هذه المراحل إلى مرحلة خامسة تتسم «بالنزوع نحو التدمير» فى شتى الاتجاهات تتورط فيها «كيانات مؤسسية». ويذهب ضحيته «المواطنون البسطاء». وتذهب حقوقهم الأولية فى حرية العبادة، والتعبير، الحياة بكرامة، أدراج الرياح...والأخطر «الإكراه» على العيش تحت مظلة الطائفية...أو «الذمية المعدلة» بحسب أستاذنا وليم سليمان قلادة.
(2)
وهنا تبرز عدة أسئلة، أظنها مشروعة، هل يمكن أن يستقيم «النزوع التدميرى» فى زمن الثورة المعرفية والتكنولوجية الرقمية.. وهل يمكن أن يقبل العقل الجمعى المصرى، بعد قرون من الحياة المشتركة بين المصريين المسلمين والمسيحيين ــ بحلوها ومرهاـ أن تصل العلاقة بينهما فى هذه المجتمعات إلى درجة من العطب المقلق.. وهل من المقبول بعد عقود من النشاطات المسكونية المشتركة بين المذاهب المسيحية (لا تقل الطوائف المسيحية)، تتم استعادة «النزالات» من زمن الإرساليات. وتعكس القراءة المتأنية للبيانات الصادرة من كل الأطراف فى حالة «الزعفرانة» إلى أى مدى وصلت الأحوال فى إحدى البقاع المصرية المنسية.. ولا يجب أن نتغافل عن الدور الذى تلعبه تقنيات التواصل الاجتماعى الرقمية، إيجابا وسلبا، وما تكشف عنه فى المجمل من اتجاهات التفكير وردود الأفعال.
(3)
ويبدو لى أن بقاء هذه المجتمعات- لمدة زمنية ممتدة ــ بعيدا عن التحديث والحداثة. والتنمية والإنتاج والخدمات الأساسية. يدفعها فى أن تبدأ فى ممارسة أفعال «بربرية» تجاه الأضعف. ربما لندرة الموارد، أو لتحولات فى منظومة القوة الاجتماعية ــ لا ندركها ولم ندرسها بعد ــ حيث حل «وجهاء جدد» محل الوجهاء القدامى، يتسلحون بالبربرية للحفاظ على مصالحهم الجديدة البدائية الطابع بالضرورة. ويتبنون نظاما قيميا يتصف بالمانع والمعوق لقيم الدولة الحديثة: الدستورية، والمدنية، والعصرية التى تقوم على المواطنة. إنها حالة من «اللا تسامح» شهدتها كثير من البلدان فى أزمنة مختلفة اتسمت بالتحول. ولكن هذا لا يبرر «البربرية» بقدر ما يدفعنا إلى العمل على تحجيمها وحصارها وتقليل آثارها الضارة التى من أبرزها: «تجاهل الغير» و«عدم الاعتراف» بهم. فممارسة البعض للأفعال البربرية قد تضمن تفوقا مؤقتا يضمن إقصاء ونفى الآخرين. إلى أن هذه الأفعال سرعان ما سترتد على من يمارسها لتدمره تدميرا.. فالأصل فى الحياة الإنسانية هو التعددية والتفاعل لا الأحادية والتوحد.
(4)
نحن فى أشد الحاجة إلى المعرفة والعلم فى مواجهة «النزعة التدميرية» و«الأفعال البربرية». وأرجو أن يقبل القارئ الكريم بأن أعيد ما اقترحته فى أكثر من مناسبة ودراسة بضرورة تشكيل آلية من ثلاث وحدات كما يلى: أولا: دراسة ما أطلقت عليه جغرافيا وسوسيولوجيا التوتر الدينى. ثانيا: اقتراح حزمة من التدخلات التنموية الشاملة على أن يكون من ضمنها تكرار نموذج بناء «المسجد/ الجامع» فى أكثر من مكان من أماكن الأزمة. وثالثا: تشكيل جهاز إنذار مبكر يستبق الأحداث ويعمل على استيعابها متى حدثت.