فى إطار اهتمامنا بجديد مبحث المواطنة مع انطلاق حركات الكتل الجديدة الجماهيرية (بحسب عالم الاجتماع السويدى والأستاذ بكمبريدج جوران ثيربورن فى دراسته «الكتل الجديدة» «New Masses» ذات الطابع المطالبى فى العديد من مناطق العالم، مطلع العقد الثانى من الألفية الثالثة وجدنا أن هناك سيلا من الأبحاث المعتبرة: الأكاديمية والفكرية العامة؛ المواكبة لهذا الحراك أولا بأول.
وتنطلق أهمية هذه الدراسات من أنها نجحت فى تحقيق ما يلي: أولا: أن يكون العلم فى خدمة المجتمع ومواطنيه بفهم وتفسير حركته وتحولاته. ثانيا: أن يجدد فى بنى العلوم السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية من جانب. وأن يربط بينها ويقارب الظواهر المستجدة من خلال رؤية متعددة المستويات من جانب آخر. ثالثا: أن يتحرر من هيمنة التفسيرات الإكليشيهية والموجات المعرفية السابقة التى أنتجها العقل الانسانى فى أزمنة وسياقات سابقة. رابعا: أن يقدم وجوها فكرية وأكاديمية شابة تنظر إلى الظواهر من خلال رؤى ومناهج غير نمطية. خامسا: تطوير مذهل لمباحث مثل: المواطنة، والحركات السياسية، والطبقات الاجتماعية، والعلاقة بين الاقتصاد السياسى والديمقراطية، وكل ما سبق والزمن الرقمى وثقافته واقتصاداته وبناه المؤسسية الشبكية لا الهرمية،...،إلخ.
فالمواطنة، على سبيل المثال، تم تجاوز تناولها من خلال المنظور الدستوري/القانونى الذى يحصرها فى النصوص الحقوقية بأنواعها. كذلك المنظور الثقافى الذى يحصرها فى دائرتى الانتماء والهوية إلى اعتبارها: «حالة حية دائمة الحركة من خلال المواطنين ــ على اختلافهم ــ باعتبارهم هم الذين يعبرون عن الاقتصاد السياسى ويتأثرون بسياساته. ومن ثم يقاومها من يتضرر منها ويدعمها المستفيدون منها وفق مواضعهم فى الجسم الاجتماعى ومواقعهم فى البنى المؤسسية المختلفة». وهو ما عبرت عنه مجلدات ثلاثة بعنوان: تحول المواطنة (2017)، حيث ترصد من خلال 30 دراسة فكرية وميدانية ــ لكوكبة من أهم العقول ــ الجديد الذى طرأ على المواطن/المواطنين فى حركتهم المجتمعية تجاه: المؤسسات القائمة المتنوعة السياسية والمدنية، والايديولوجيات، والسياسات،...،إلخ. إلى الحد الذى اعتبر البعض المواطنة وقد صارت مؤسسة قائمة بذاتها تعبر عن عموم المواطنين على اختلافهم من خلال حركات مجتمعية قادرة على ضم تيارات متناقضة, خاصة إذا كانت تواجه تهديدات مشتركة...
حراك سميناه: «الحركية المجتمعية الجديدة فى أوروبا» (راجع دراستنا فى دورية الديمقراطية ــ يوليو 2018. كذلك مقالاتنا فى الأهرام حول ما يجرى فى أوروبا: فرنسا، واليونان، وإيطاليا، وإسبانيا، والسويد، وألمانيا، وشرق أوروبا،...، إلخ، منذ 2016. حيث رصدنا أسماء الحركات والأحزاب البازغة فيها، وتوجهاتها أكثر من مرة)... حيث تتم خلخلة كل ما هو مستقر بفعل ما أطلقت عليه: «الحركات المواطنية الجديدة: الشعبوية المتجددة، والمطالبية، والحقوقية، والشبابية،...،إلخ».
فلقد رصدنا كيف أن صيغة المواطن ـــ الدولة التى ولدت من رحم الثورة الفرنسية التاريخية يطولها التفكيك الناعم خلال العقد الفائت لمصلحة الحركات المواطنية الجديدة (الكتل جماهيرية مواطنية قاعدية)؛ أوالسلطة المضادة بحسب عالم الاجتماع الألمانى أولريش بك (1944 ــ 2015)؛ لمواجهة سلطة شبكات المصالح/الامتيازات المغلقة وسياساتها المتعسفة...
فى هذا المقام، نشير إلى الزخم العلمى الجارى (اكاديميا وفكريا على المستويين الفردى والمؤسسى الحكومى والسياسي) لتفسير الحركية المجتمعية الجديدة فى أوروبا من خلال ثلاثة مباحث: الأول: مبحث سياسات الشوارع «Street Politics». الثاني: مبحث الحركات الكتلوية أو حركات الكتل الجماهيرية «Mass Movements». الثالث: مبحث الاحتجاج/ الغضب/ النزاع المجتمعى «Societal Protest/Anger /Contentious»...الرابع: مبحث الاحتجاج الشبكي/الرقمي/السيبرنتيكي«Cyber / Digital /Net Protest»... الخامس: مبحث الديمقراطية المتضمنة فى العملية الراديكالية الجديدة «Inclusive Democracy through New Radicalism».
وتعكس المجالات البحثية السابقة فى مجملها: نزوع الحركات المواطنية الجديدة إلى ممارسة قدر من الديمقراطية التشاركية المباشرة عبر الحراك الراديكالى الميدانى والتقنيات الرقمية المتنوعة للتعبير عن حاجاتها إلى العيش الكريم واللائق والإنسانى.
وأستطيع أن اقول من مراجعتى لكثير من هذه الأدبيات إنها تطرقت إلى الكثير من الأبعاد والموضوعات المتقاطعة من حيث بنية هذه الحركات، وكيفية تحركها، وأشكالها الحركية الدائمة التحور، ولماذا الاهتمام بالحركية على أساس المؤسسية؟، ولماذا يعتبر البعض أن ما يحدث بات يتجاوز اليمين واليسار عموما؟ والصيغ الأوروبية الفكرية والسياسية التى تبلورت مع دولة الرفاه عقب الحرب العالمية الثانية مثل: يسار الوسط، والاشتراكية الديمقراطية، والديمقراطية المسيحية، واليمين الليبرالى وأثر مفكرى جيل ما بعد ماركيوز وفوكو الذى كانت ذروة ابداعاته الفكرية فى الستينيات. ومن هؤلاء يمكن أن نشير إلى : عالم الاجتماع الأرجنتينى ارنستو لاكلاو (1935- 2014) تحديدا الذى بات مرجعا وملهما للحركات والأحزاب الجديدة التى نجحت فى الانتخابات المختلفة: الرئاسية، والنيابية، والمحلية أن يكون لها حضور فى المسرح السياسى على حساب قوى وأحزاب تاريخية منذ الحرب العالمية الثانية التى جرت فى العقد الذى سبق منتصف القرن العشرين. (راجع مقالنا زلزال سياسى فى السويد ــ سبتمبر 2018). كذلك إلى تلميذيه شنتيل موف ورونالدو منك...
وقد عصم هذا الزخم العلمى الإدراك الأوروبى من التفسيرات الزائفة والأحكام الأخلاقية والتقييمات السابقة التجهيز، والتحليلات منبتة الصلة عن هذا الزخم العلمي, مؤكدا أننا أمام نموذج تاريخى مجتمعى جديد تحركه حركية (ديناميكية) جديدة... ولا ينبغى الحديث عن فرنسا بمعزل عما سبق...