كشف مؤتمر «هل للمسيحيين مستقبل فى الشرق الأوسطى»؟ الذى نظمه بيت المستقبل فى بكفيا، لبنان، يومى 14 و15 نوفمبر الماضي، بالشراكة مع مركز القدس الأردنى للدراسات السياسية، ومجلس كنائس الشرق الأوسط، ومركز مارتنز للدراسات الأوروبية، عن زخم فكرى متنوع. طرحت فيه الكثير من الأسئلة المعتبرة والجادة بكل وضوح وشفافية.
وقد حرصنا على عرضها تفصيلا، فى مقالنا الماضي، من خلال خمسة محاور نقاشية. ويقيني، بغض النظر عن التراوحات، والتفاوتات فى جودة المقاربات والمساهمات التى قاربها وطرحها الحضور إلا أن الجدية والحسم والمكاشفة كانت عناصر حاكمة فى كل ما دار من نقاشات، خاصة أن مياها كثيرة قد جرت فى المنطقة خلال ما أطلقت عليه سنوات الحراك العربي.
فقبل سنوات الحراك، ومنذ السبعينيات، بدأ طرح ملف المسيحيين العرب: حضورهم وتجذرهم ودورهم التاريخى وضرورة استمراره... ذلك لأن المنطقة لا تستقيم صورتها دون تعدديتها. وعقدت اللقاءات فى داخل المنطقة وخارجها. وأُطلقت الوثائق من جهات عدة حول مسيحيى المنطقة (راجع دراستنا المسيحيون العرب: ما بين الرجاء الحى وأطلنطا الغارقة:إطلالة على خريطة الأدبيات المعاصرة. ورقة قدمت إلى أعمال ندوة: مسيحيو الوطن العربي: التاريخ، الدور، المستقبل ـــ 2010، ونشرت فى 2013).
وقد كانت معظم هذه الأطروحات تتراوح بين التفاؤل المسنود بثقة إيمانية/روحية فى دوام الحضور المسيحي. وبين نظرة متشائمة بأن المنطقة إلى تصحر، حيث ستسود الأحادية ما بقى العنف الدينى الداعشى ضد المسيحيين فى أكثر من مكان. مع إدراك أنه بات مكونا من مكونات المنظومة الإرهابية ...
وإذا كان النقاش الذى سبق سنوات الحراك، قد اتسم بطابع تحذيرى مقرون بيقين أن الفرصة لم تزل قائمة فى إمكانية تدارك الأمر بدمج المسيحيين وتجاوز المعاناة، والواقع المتفجر فى بعض المناطق...إلا أن التحولات الجذرية التى طرأت على المنطقة بفعل الكثير من العوامل أكدت أن الخيار الحاسم؛ الذى انحاز إليه مسيحيو المنطقة الذين بقوا فيها، ولم يتعرضوا للإقصاء القسرى, هو الانخراط فى عملية التغيير السياسية كمواطنين من أجل بناء دولة المواطنة التى تسع الجميع على قاعدة المساواة والتكافؤ والكرامة الإنسانية...وهى عملية مجتمعية ذات مستويين، هما:
الأول: يتسم بالنضالية الانتزاعية. الثاني: يلتزم «الشراكة الوطنية» مع شركاء الوطن الذى ليسوا بالضرورة متماثلين دينيا، ولكنهم متماثلون فى الوطنية، والصالح العام. ما يحرر ــ بعض الشيء ــ (بحسب الدكتور وحيد عبد المجيد فى رئاسته للجلسة الرابعة) من أسر النظرة الضيقة التى تجعل الدين، وحده، أساسا للهوية. ما يضمن تأمين الظروف الموضوعية لتوثيق علاقة المسيحيين بأوطانهم ومنطقتهم كأعضاء أصلاء فيها.
وأن «ميكانيزمات الملاذ الملى الدفاعية»؛ من جانب. و«الأقلوية المتخيلة الاصطناعية», من جانب آخر. لم تمنع المآسى التى جرت على أرض الواقع. كما أنها تتناقض كليا مع المواطنة المنشودة بمعناها الدقيق. خاصة وقد ثبت فى الواقع العملى أنه لا يوجد ما يطلق عليه «تحالف الأقليات». كذلك رفض المفهوم كحالة توصيفية يمكن أن ينبنى عليها قوانين تمييزية. كذلك تنصل الغرب, عمليا, من تقديم أى مساندة للمسيحيين. والأهم نهاية احتكار رجال الدين عن الحديث باسم المواطنين الذين كشفت سنوات الحراك عن أن مصالحهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بل الثقافية مختلفة بالرغم من المشترك الديني/المذهبي.
ومن هنا تتنوع مواقفهم وتتناقض كثيرا. وقد تنشأ تحالفات بين عناصر مسيحية مع أخرى مسلمة إذا ما توافقت المصالح... وهو أمر تنبه له، مبكرا فى مطلع الثمانينيات، المؤرخ الكبير قسطنطين زريق بقوله: إن المشكلة الأساسية عندما نتكلم عن مسيحيى المنطقة ومستقبلهم ليست بين المسيحية والإسلام، ولا بين المسيحيين والمسلمين بصفة مطلقة، وإنما بين الرجعيين والتحررين، فى هذا الجانب أو ذاك. وتتعقد هذه المشكلة ويسود وجه المستقبل ويشتد خطره كلما قويت قوى الرجعية فى أحد الجانبين أو فيهما معا.
وعلى العكس تهون المشكلة ويخف الخطر ويزهو وجه المستقبل كلما قويت التحررية فى أحد الجانبين أو فيهما معا، وكلما تماسك التحرريون عبر الحواجز القائمة بينهم وتعاضدوا وتعاهدوا على النضال المشترك ــ قامت الدولة الحديثة التى تقوم على المواطنة، والحداثة، والمرجعية الدستورية، والمدنية، والمؤسسية،...، إلخ...
وهو ما أكدته لحظتا الحق والحقيقة فى حراك يناير وتمرد يونيو. لحظتان سبق فيهما الشباب ــ على اختلافهم ــ المؤسسات وتضامنوا معا من أجل الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية...والإدراك بأنه لا يمكن الجمع بين نظام الملة (أو الطائفة التى لم يزل البعض يتمسك بها والتى تتناقض مع الدولة الحديثة)، والسلوك «كجماعة دينية» وبين المواطنة بمعناها الدقيق. وهو ماأكده فى رئاسته للجلسة الأولى الأستاذ سامح مكرم عبيد...وكم أتمنى أن تتبنى جهة مصرية تعميق الحديث حول هذا الملف مثل مركز الأهرام للدراسات ومكتبة الإسكندرية، خاصة أن الدكتور مصطفى الفقى دائم الكتابة والانشغال بهذا الملف.
وبعد، إذا كان اللقاء قد أسفر عن اختيار حاسم لدولة المواطنة التامة. فإن جهدا لازما لابد من أن يتم فى بلورة رؤية منضبطة لما تعنيه دولة المواطنة بدقة وتفعيل هذه الرؤية من خلال تأليف سياسات دمج عملية مؤسسيا وحياتيا.