حول هذا العنوان, نظم بيت المستقبل بلبنان، بالشراكة مع مركز القدس للدراسات السياسية بعمان، ومجلس كنائس الشرق الأوسط ، ومركز مارتنز للدراسات الأوروبية، مؤتمرا علميا لمدة يومين(14 و15 نوفمبر الحالي) فى محاولة للإجابة عن هذا السؤال...
وشأنه شأن كثير من الأسئلة دائمة الطرح من عينة: لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا؟، ولماذا تعثر مشروع النهضة العربية؟، ولماذا فشل تجديد الفكر الدينى العربي؟،وغيرها. يظل السؤال عن مستقبل المسيحيين العرب، صالحا للطرح خاصة أن مياها كثيرة جرت بعد انطلاق الحراكات العربية فى 2011... وعليه فإذا ما كان السؤال يعد قديما إلا أنه دائم التجدد ما بقى السياق أو الواقع المجتمعى قلقا. ولكن قبولنا بطرح السؤال القديم/الجديد لا يعنى أن نعيد طرحه وكأن السياق لم يتغير. فالسياق قبل الحراكات العربية يختلف جذريا عن السياق الناتج عن هذه الحراكات. ما يعنى ضرورة إعادة طرح السؤال الكبير حول المسيحيين العرب ــ القديم ــ شريطة أن نبحث فيما فعلته الحراكات فى السياق العربى الراهن.
وظنى أن المؤتمر قد نجح فى صياغة أسئلة جديدة بحثا عن إجابات عنها من خلال خمسة محاور/جلسات كما يلي: أولا: حول الدين والقبلية وتحديات الهوية, طُرحت الأسئلة التالية: هل نشهد انبثاقا جديدا للمكونات القديمة الأولى التى قامت عليها الهوية العربية، أى الدين والقبيلة؟، وإذا صح هذا الأمر، ما هى آفاق مستقبل الفكر القومى العربى الذى ساهم المسيحيون فى نشأته خلال القرن العشرين؟، و هل تغيب التعددية؟ أم تعود المنطقة إلى نظام الملل العثمانى حيث التصنيف الهوياتى يقوم على أساس الدين؟...ثانيا: وحول موضوع المسيحيين العرب وتأثيرات الصراعات الإقليمية, طرح المؤتمر عددا من الأسئلة منها: كيف تموضع المسيحيون العرب فى الصراعات التى احتدمت على المستويين الوطنى والإقليمى فى المنطقة؟، وما هو الدور الذى لعبه المسيحيون فى حركة الاحتجاج التى اجتاحت بعض الدول العربية بدءا من عام 2011، مطالبة بوضع حد لانتهاكات حقوق الإنسان والفساد والفقر؟، وما هى تداعيات الربيع العربى على المسيحيين؟، و هل جاء بمثابة حلم تحقق رسخ موقعهم كمواطنين كاملين أو كابوس عزز من تمييزهم كأقلية؟...ثالثا: وتم تخصيص جلسة لمقاربة نقدية لإشكاليتي: الأقلوية والحماية, حيث نوقشت فيها: ماذا عن نظرية تحالف الأقليات؟، وماذا عن تحالف المسيحيين مع الأنظمة؟، وهل المسيحيون العرب مجموعة متجانسة؟، و هل هناك قوة سياسية تمثلهم؟، وكيف رد الغرب على مخطط تفريغ المنطقة من مسيحييها؟ وكيف يحاول اللاعبون الإقليميون والدوليون تحقيق انتصارات سياسية على حساب المأساة التى تحدث؟...رابعا: وعن المسيحيين العرب ونصوص الشأن العام الكنسية, بحث المشاركون هل ثمة لاهوت سياسى عربى وثمة نصوص كنسية متعددة تحدد مسار التزام المسيحيين بالشأن العام كما القضايا التى يلتزمون بها. فكيف السبيل إلى استنهاض هذا الإرث الكنسي؟، وماهى الآفاق العملانية(العملية) لترجمته على أرض الواقع؟،وما هى المعوقات؟،و أى تعاون مسكونى فى هذا السياق؟...وخامسا وأخيرا عرض اللقاء للمبادرات الإسلامية وثقافة المساواة, وتساءل عن مستقبل المبادرات الإسلامية ذات الصلة والملهمة لإرساء ثقافة المساواة، كتلك التى أطلقها الأزهر، وغيرها، والتى تدعو إلى فلسفة فقهية جديدة تقوم على أساس المواطنة؟...
شكلت هذه الأسئلة المهمة إطارا عاما للمساهمات المُقدمة والنقاشات التى جرت بوضوح وصراحة نظرا إلى إدراك الجميع على اختلاف انتماءاتهم: الدينية، والمذهبية، والجغرافية، بأن الوضع جد خطير، حيث يتراجع الوجود المسيحى فى الشرق الأوسط. الوجود الذى كان متجذرا، دوما، على مدى التاريخ. مما أكسب هذا الوجود الفيزيقى حضورا فاعلا للمسيحيين العرب خاصة فى فترات النهوض العربي. وأصبح متراجعا بفعل الثقافة المانعة للتعددية والتنوع. ما يهدد آفاق بقاء المسيحية فى مهدها(العربي) قاتمة. فهم ليسوا وافدين على المنطقة أو جاليات وإنما هم مواطنون. الأمر الذى يلزمنا بالعناية بهذا الموضوع. ذلك لأن التصحر أو فقدان المنطقة لتعدديتها إنما يعنى فقدانها لهويتها التاريخية متعددة ألوان الطيف...وبالأخير، لا يعود أمام المسيحيين العرب إلا خيارات ثلاثة هي: الوجود المشروط، أو الحضور القلق، أو الإقصاء القسري...
وكلها خيارات تتناقض مع الحياة المشتركة التاريخية. والنضال المشترك ضد الحكام الوافدين، ومقاومة الاستعمار بأشكاله المختلفة: السياسية/الاستيطانية، الثقافية، الاقتصادية،...،إلخ. ومواجهة الاستبداد والاستغلال. والأهم لحظة الحق/الحقيقية بتجلييها الميدانيين فى 25 يناير و30 يونيو فى مواجهة الاستبدادين السياسى والديني...وهما لحظتان تاريخيتان بكل المقاييس يصفها الشاعر حسن طلب بما يلي:
كفى الثورة الآن إيمانها. ..فمعبدها الآن ميدانها
وقرآنها اليوم إنجيلها...وإنجيلها اليوم قرآنها
وقد نتج عنهما الكثير من الإيجابيات نرصدها فى ثلاث: أولا: التمحور حول فكرة المواطنة بالرغم من التراوح فى تفسيرها عمليا. ثانيا: التحرر بعض الشيء من فكرة التصنيف الأقلوى للمسيحيين، كذلك الملى لهم نظرا لتبنى مواقف سياسية واقتصادية متنوعة فيما بينهم. ثالثا: التوافق التام بين المسيحيين والمسلمين على مواجهة الإرهاب المادى ومنظومته الفكرية العنفية/الإقصائية التى تشكل ثقافة مضادة مانعة لتحقيق قيم الدولة الحديثة وفى القلب منها المواطنة...ونتابع، فى مقالنا القادم، التقاطعات الفكرية للحضور المتنوع...وبعض الملاحظات العامة حولها..