(1)
منذ الأزمة المالية الأسوأ التى ضربت الاقتصاد العالمى فى 2008، لم يتوقف العقل الغربى (فى بلدان المنشأ للرأسمالية) عن محاولة فهم ما جرى. خاصة أن تداعياتها ــ وبالرغم من مرور عقد من الزمن ــ لم تزل تؤثر تأثيرا بالغا على السياسة الكونية للمنظومة الرأسمالية. ما فاقم الأوضاع المجتمعية. ولعل من أهم الإيجابيات التى أنتجتها هذه الأزمة هو انطلاق «تيار نقدى» يتكون من خمسة اتجاهات للرأسمالية، من داخلها وخارجها.
(2)
ولفائدة القارئ الكريم، نشير لأهم الأسماء التى تمثل هذه الاتجاهات كما يلى: أولا: رجال أعمال، مثل جورج سوروس، مؤلف «أزمة الرأسمالية العالمية». ثانيا: بعض المفكرين، مثل «فوكوياما» الذى أطلقت عليه «مؤلف النهايات»، لأنه كما كتب «نهاية التاريخ» مبشرا بانتصار الرأسمالية فى التسعينيات، ألّف «نهاية الريجانية» لاحقا مراجعا مقولته.
ثالثا: بعض السياسيين، مثل جوردون براون، رئيس وزراء بريطانيا، الذى أعلن مبكرا نهاية زمن الأسواق الحرة، وإجماع واشنطن، وسياسات النيوليبرالية. وروبرت رايش، وزير عمل إدارة كلينتون، ومؤلف المرجع المعتبر عن أزمة «السوبر رأسمالية»، ويمكن إضافة المرشح الرئاسى بيرنى ساندرز. ورابعا: مجموعة نوبل الوسطية، مثل: أمارتيا سن (نوبل 1998)، وجوزيف استيجلتز(2001)، وبول كروجمان (2008)، ومؤخرا آنجس دايتون (2015). خامسا: اليساريون الجدد (بألوان طيفهم المتنوعة) الذين قدموا انتقادات أكاديمية وسياسية مهمة للغاية أشرنا إلى الكثيرين منهم فى مناسبات مختلفة، مثل: دافيد هارفى (صاحب مؤلف نهاية الرأسمالية). وأرنست فولف (بنقده اللاذع لصندوق النقد). ومارك بليث (صاحب المرجع العام فى نقد سياسات التقشف). ووزير مالية اليونان عضو حركة «سيريزا» المفكر يانيس فاروفاكيس. بالإضافة إلى مدرسة «دورية اليسار الجديد»، وكتاب «توماس بيكيتى» الذى سار عديدون على نهجه...
(3)
وممن يمكن إضافتهم إلى الاتجاه اليسارى النقدى الجديد «فولجانج شتريك» (1946) الأكاديمى الألمانى الرئيس، مدير معهد ماكس بلانك للبحث الاجتماعى، وأستاذ علم الاجتماع بجامعة كولون الألمانية. ويكتب بشكل منتظم فى دورية اليسار الجديد. ولـ«شتريك» مؤلف فى غاية الأهمية عنوانه: «شراء الوقت: الأزمة المؤجلة للرأسمالية الديمقراطية» (صدر فى 2013 وترجمته د. علا عادل فى 2017 عن دار صفصافة).
وللكتاب أهمية كبرى لأنه يطرح أسئلة جوهرية فى ضوء تداعيات الأزمة المالية المُحتقنة، حيث يصف ما تفعله الرأسمالية العالمية بأنها «تقوم بعملية شراء للوقت بدعوى تجديد الرأسمالية، ومن ثم تجديد دولة الرفاه التاريخية» التى عرفتها المجتمعات الغربية بعد الحرب العالمية الثانية من خلال طبعات متعددة: إسكندنافية، وألمانية، وأمريكية،...إلخ.
ويرصد المؤلف الصعوبة البالغة بين تلبية الوعود وبين تنامى ما أشار إليه بدولة الضرائب والديون وسوء التوزيع والتضخم والبطالة وتراجع قيمة المدخرات فى ظل سياسات تقشفية مبالغ فيها... كذلك كيف ستؤثر «الأزمة البنيوية» للرأسمالية على المنظومة الديمقراطية، حيث باتت الديمقراطية من حيث نوعية من يمارسها ومن ثم تشريعاتها وآلياتها تصب لصالح الأغنياء فى المقام الأول.
ما يفسر تنامى الحركات القاعدية: المواطنية والشعبوية، تعبيرا عن رفضها لأحزاب وسياسات ما بعد الحرب العالمية الثانية لأنها أدت إلى أزمة الرأسمالية الممتدة. خاصة مع الإصرار على الرؤية النيوليبرالية التى تركز على الطلب ولا تعبأ للبعد الاجتماعى. وهى الرؤية التى نتج عنها سياسة اقتصادية مقيدة بعلاقة معقدة بين المؤسسات الوطنية الاقتصادية والأسواق المالية العالمية.
وهى علاقة باتت مقدمة على حساب المصلحة الوطنية للدول والفوارق الاجتماعية أو «اللامساواة» المطردة... ويتساءل «شتريك»: إلى متى تظل مغامرة الرأسمالية الخطرة فى شراء الوقت؟.