(1)
منذ يومين، رحل عن عمر يناهز الـ87 عاماً (1931ـ 2018)، العالم المصرى الكبير «سمير أمين» الذى حظى بمكانة دولية كبيرة، لأنه استطاع أن يحفر لنفسه مكانة عالمية بين مفكرى اليسار العالميين من خلال ما عرف بنظرية «المركز والأطراف»، (المركز الغنى والأطراف المتنوعة المكانة الاقتصادية). شأنه شأن كل من العلماء المعروفين من عينة: «إيمانويل فالرشتاين»، و«جوندر فرانك»... إلخ، وغيرهما.. وهى المكانة التى جعلت الموسوعة البريطانية تدرجه من بين أهم المفكرين المعاصرين، نظرا لمساهماته النظرية والفكرية التى تجاوزت تخصصه الضيق. فلقد صبت مساهماته فى إثراء مجالات أربعة هى، أولا: نقد نظرية وتجارب التنمية السائدة، ثانيا: اقتراح بديل فكرى جديدـ غير المعتادـ لتحليل النظام الرأسمالى القائم، ثالثا: إعادة قراءة تاريخ التكوينات الاجتماعية الراهنة، رابعا: تأسيس لمنهج قراءة المجتمعات تحت عنوان «المجتمعات ما بعد الرأسمالية».. وهذه العناوين نتج عنها أكثر من 30 كتابا عالجت الكثير من القضايا والإشكاليات بمقاربة شاملة وعميقة متعددة المستويات.
(2)
لم يكن «مُنظرا» منفصلا عن الواقع. فلقد ساهم انخراطه فى السياسة مبكرا ثم عمله فى المؤسسة الاقتصادية المصرية التى أسسها ناصر فى 1957 (وهى تجربة هامة للغاية وثقها فى كتابيه مذكراتى)، وخروجه من مصر إلى أوروبا واطلاعه على جديد العالم الغربى والشرقى كأستاذ للاقتصاد فى جامعة باريس، وأخيرا عمله فى أفريقيا، أولا: كأستاذ اقتصاد فى جامعة دكار، وثانيا: كمدير للمعهد الأفريقى للتخطيط والتنمية الاقتصادية التابع للأمم المتحدة، وأخيرا كمدير للمكتب الأفريقى لمنتدى العالم الثالث، وإشرافه على برنامج بحوث «استراتيجيا للمستقبل الأفريقى» التابع لجامعة الأمم المتحدة.. ساهم كل ما سبق فى أن تكون دراساته وكتاباته استجابة فكرية معتبرة لتحديات الواقع من جميع زواياه.. ما دفع أحد الباحثين أن يوجز مسيرته بكلمات قليلة معبرة كما يلى: «سمير أمين: جدل الواقع والنظرية». فلم يكن جامدا وإنما كانت لديه القدرة على رؤية ما يطرأ على الواقع من تغيرات وتحولات، ومن ثم التعاطى المرن- دون تصلب فكرى- مع هذه التحولات بإبداع.. لم يعزل نفسه، فلقد كان دائم التحرك، ودائم الاشتباك- بتواضع- مع ما يطرح من أفكار.. ولا يبخل على أحد بوقت ونقاش، أو بكتب أو مصادر.. وأذكر أننى التقيته مطلع التسعينيات وأمضيت معه وقتا فى منزله «بأبى الفدا» وطلبت منه بعضا من مؤلفاته التى تنقصنى، خاصة التى لم تترجم بعد. فأخذ عنوانى وبعد أسابيع حتى وجدت طردا بريديا (عبر البريد المصرى، حيث لم يكن هناك بريد سريع أو بريد إلكترونى) يتضمن الكتابين المطلوبين وعدة دراسات حديثة.
(3)
ومنذ اللقاء الأول توطدت علاقتنا. ولا أنسى دعوته الأخيرة لى للقاء مطول فى أكتوبر 2012 بمنزله للتحاور عن الـ Dynamics، (بحسب قوله) التى كانت تتفاعل فى مصرـ آنذاك- وسيناريوهات المستقبل (نحكى التفاصيل فى وقت لاحق).. وقبل 30 يونيو دعوته ليكون الضيف الرئيسى لمؤتمر «تجديد الاندماج الوطنى استجابات مبدعة لما بعد 25 يناير»، حيث ألقى كلمة عنوانها: «كيف ساهمت العولمة فى خلخلة الدولة القومية ما بعد الاستقلال وتأثير ذلك على المسألة الدينية فى مصر؟».. وقد كانت كلمته مدخلا مختلفا فى مقاربة الشأن الدينى.
(4)
أظن أن «سمير أمين» يستحق أن تكون مؤلفاته متوفرة دوما... كذلك تقديره بما يليق بقامة دولية مصرية كبيرة.. رحمه الله.