«فى قلوبنا عشق».. الكتاب الثانى لصديق العمر، ورفيق الرحلة «توماس جورجيسيان». الكاتب المصرى الأرمنى المقيم بالولايات المتحدة الأمريكية والذى يطل علينا بمقالاته الحميمة وتقاريره الثرية عبر الأهرام وصباح الخير، (الصادر عن دار دلتا للنشر والتوزيع- 2018) هو كتاب فى عشق: «اكتشاف الحياة. فرحلة الحياة مهما قصرت أو طالت، يجب أن ننشغل باكتشافها». فمن حصيلة الاكتشاف نحصد الإبداع، والجرأة، والتجدد، والحب، والسعادة، والتجويد، والحكمة، ونستلهم معانىَ جديدة، ونمتلك مسارات بديلة...
ويتجدد عشق اكتشاف الحياة مرة أخرى داخلنا. ما يعصمنا من اليأس أو الندم أو الإحباط والإخفاق. بذلك نحرس أحلامنا ونحميها، وندافع عن تطلعاتنا ووجودنا فى الأزمنة الصعبة والقاسية، مهما حملت من تحديات وأخطار وقيود... وقبل كل ذلك التحريض على الحلم... فما نعيشه- يقول توماس- أو ما يجب أن نعيشه فى حياتنا أن نواجه التحديات، ونتخطى الصعاب، ونتجاوز قيود الواقع مهما كانت. هكذا نتجدد. وهكذا تتجدد حياتنا، طالما لدينا حرص على أن نحرس الحلم. نعم، أن نحرسه وندافع عنه مهما طال بنا الزمن.
(2)
فى هذا السياق، يعمل توماس فى كتابه على التحريض من أجل ممارسة حب الحياة بجسارة. وذلك بخوض: تجاربها، واكتشاف أسرارها، وإدراك أعماقها... بفرح وبدأب فى آن واحد. كما يقوم بالتنقيب فى إبداعات العديد المبدعين من خلال ارتحال عميق لحياتهم وإبداعاتهم لفهم كيف تناولوا ومارسوا حب الحياة، وانتزعوا حق الحلم... هنا يتذكر يوسف إدريس الذى قالها بوضوح: «إنى أتمنى أن أستمر فى امتلاك القدرة على أن أحلم، فلقد قضيت الحياة منذ طفولتى ومتعتى ليس أن أحياها، وإنما أن أحلم بحياة أمتع، وربما كتبت لكى أحرك فى الآخرين القدرة على أن يحلموا هم أيضا أحلامهم الخاصة»...خاصة أن الإنسان بلا أحلام فى رأيى كائن أعمى. فالحلم هو الأمل المبصر المستشرف. هو قدرته على أن يرى إلى الأمام وأن يجمع الماضى والحاضر والمستقبل فى نقطة هى: الإبداع... الجزء الثمين المتمرد فى كل البشر... هكذا تصير حياتنا ربيعا متجددا... يجدد قدرتنا ورغبتنا فى احتضان أيامنا وليالينا... ودنيانا، بالرغم من الأعاصير، والأتربة، والأمطار التى تواجهنا كل يوم.
(3)
وعليه يصبح الفجر الجديدـ ليس فجر يوم بل فجر عصر. عصر كامل تام، يعود فيه الإنسان يحب بكل فهم وظمأ الحب. ويعيش روعة الحياة يشربها مترعة قطرة وراء قطرة، ولكل قطرة طعم، ولكل لحظة زمن تمر أشواق وصهللة ومعان... ومن ثم فعلينا الانتباه عندما نتحدث عن الألم والإخفاق: «هل نريد أن نتألم وأن نشكو فقط، أم أننا نحلم بواقع أفضل أو هذا ما نتصوره ونسعى إليه ونكرر الكلام عنه لعل وعسى تتغير العقول وترتقى النفوس فينا ومن حولنا... واقع الحال أن القلب الممتلئ عشقا ليس لديه وقت للندم. وليس لديه حرية الانسحاب. ونسمع صوت الشيخ عبدربه التائه صوت أو صدى نجيب محفوظ (فى أصداء السيرة الذاتية)، يستدعيه توماس بقوله: «اخفق يا قلبى، واعشق كل جميل، وابكِ بدمع غزير إذا شئت، ولكن لا تندم»... إن رصيد العشق داخلنا قادر أن يدفعنا إلى مواصلة مسيرة الحياة: حلما واكتشافا.
(4)
فمن حصيلة الخبرة الإنسانية- بحلوها ومرها- يتم تدريب القلوب على العشق كى تسع الورود والأشواك، فلا تعوقنا عن احتضان الحياة والعشق والانطلاق بالحرية. ولعل حياة بابلو نيرودا- كما يستدعيها توماس- تشير إلى أنه كان نموذجا حيا «لعشق الدنيا والبشر». و«الوله بوطنه والولع بالإنسانية»، فكان من أهم المبدعين والمناضلين الذين عرفهم التاريخ الإنسانى المعاصر. فلقد عاش «يلتهم كل شىء: المشاعر والمخلوقات والكتب والأحداث والمعارك. وكان يقول: «لو أستطيع لأكلت الأرض كلها ولشربت البحر كله».
(5)
هكذا يواصل توماس جورجيسيان كتابته الإنسانية التى أعدها، امتدادا لكتابات إبراهيم المصرى ويحيى حقى ومحمد عفيفى. كتابة يعيشها توماس عمليا، من خلال اكتشافه للحياة وحبه لها وتواصله الإنسانى مع الجميع بانفتاح لا حدود له. وإصراره على الانخراط فى الواقع، وكشف أسراره فى بعدها الإنسانى الحى، بعيدا عن التحيزات المسبقة والإطارات الأيديولوجية الصارمة والأحكام الفوقية المتعالية، مسترشدا ومستلهما ومستدعيا إبداعات المبدعين ممن تناولوا الواقع بحرية تامة، مقدما نصوصًا إنسانية ممتعة نستأنس بها... تحية لتوماس جورجيسيان.