«تعتبر الإطاحة بحاكم ديكتاتور نهاية قصة ما، ولكنها تعتبر بداية قصة أخرى، أى نقلة من ساحة الشوارع إلى ساحات أخرى كثيرة، غالبا ما تكون محجوبة عن الأبصار. ذلك أن معظم الثورات تجمع تحالفا عريضا من القوى التى تتشارك فقط فى السخط الموجه إلى النظام القديم- فتتبلور لا واحدة- ولكن بمجرد أن تزول شعلة الكراهية والتحدى هذه، فإن هذا التحالف ينشق عائدا إلى مكوناته الأولى من اللاعبين المتنافسين»...
(2)
بهذه العبارة بدأ جيمس جاسبر حديثه عن الثورة المصرية التى خصص لها الفصل السابع تحت عنوان: «الاشتباك مع اللاعبين المصريين»؛ من كتابه القيم: «الاحتجاج مقدمة ثقافية للحركات الاجتماعية». (صدر الكتاب باللغة الإنجليزية فى 2014، وقام الباحث المخضرم والدؤوب الأستاذ عادل شعبان بترجمته فى 2017 وينتظر أن يصدر عن المركز القومى للترجمة خلال هذا العام وقد راجعه الأستاذ الدكتور أحمد زايد. وقد خص الأستاذ عادل شعبان كاتب هذه السطور بنسخة من النص المترجم لتقديمها فى إطار سلسلة الكتابات الغربية التى تناولت 25 يناير لفائدة وخدمة قراء المصرى اليوم).. وفى إطار منهجى التحليل الثقافى والسيكولوجى يتتبع «جاسبر» دوافع ومنطلقات الجماهير من: وجهات نظر، ومشاعر، وسلوكيات، ونوازع، ورغبات دفينة، التى تعكس الإحباطات التاريخية، والإخفاقات المجتمعية المتراكمة عبر مدى زمنى طويل. إنها الدوافع والمنطلقات التى تدفع الجماهير إلى التحرك وتطلق المكنون لديهم ليعبروا عنه. وهذه الدوافع والمنطلقات شأنها شأن «الشعلة» ليست دائمة الاشتعال وأنه من الطبيعى لها أن تضعف. ومن ثم تتغير التحالفات وموازين القوة.
(3)
فى هذا السياق، يلتقط جاسبر الشعور «المفتاحى» الذى أمكن من خلاله إحداث التغيير ومقاومة التنكيل.. إنه «السخط».. وحوله يقول جاسبر بلغة أدبية بليغة: «كان السخط طريقة جيدة لتحويل الحالة النفسية السلبية للقلق إلى حالة نفسية إيجابية، فقد أصبح ميدان التحرير مهرجانا للسرور والبهجة، أو دفقة من الجنون، أو ضربا من الأحلام».. إلا أن مهرجان: السرور، والجنون، الأحلام، قد تراجع مع «التردد والاضطراب والعنف». وكانت الذروة مع «خطأ الإخوان فيما أعلنوه من تحت ما عرف بالإعلان الدستورى» والذى مثل انحرافه عن شرعية يناير التى أتت بهم. كما أعادت نموذج الحاكم المطلق إلى الوجود أو بتعبير جاسبر أعادت «القصة القديمة» مرة أخرى. ما دفع «بالملايين فى الشوارع يوم 30 يونيو 2013، مدفوعين بما يعانونه من أشكال متعددة للظلم».. ومن ثم استعادة «شعور ممتع بمهرجان الإطاحة بقصة جديدة من الاستبداد»، وهكذا...
(4)
يسهب جاسبر فى تفسير التشابكات المختلفة للاعبين المختلفين فى وقتى التحالف والصراع. ويشير إلى أهمية دراسة الثورات/ الحركات الاجتماعية (معا)؛ ذلك لأن الدراسة البحثية والأكاديمية تكون أفضل فى «تبيين أن السياسة شكل من أشكال التفاعل بين لاعبين متعددين، والذى ينتشر على امتداد ساحات صراع كثيرة، وعبر فترات زمنية ممتدة. ويعد تحديد من هم هؤلاء اللاعبون، وما هى هذه الساحات، وما هى هذه التفاعلات أمرا أساسيا لتفسير كل من الاحتجاج والثورات».. ولاشك أن الحالة المصرية تعد ثرية فى هذا المقام.. وهو ما أتاحه لنا- بامتياز- الأستاذ عادل شعبان فى ترجمته المتميزة لعمل هام هو إضافة معرفية ومنهجية وتاريخية وثقافية للمكتبة العربية.
(5)
وبعد، حاولنا على مدى ست حلقات أن نقدم مراجعات متنوعة لدراسات غربية «معتبرة» تناولت «حراك 25 يناير» من زوايا متنوعة. فلقد قدمنا مقاربات: أولا: السلوفينى سلافوى جيجيك فى دراسته التاريخية الشاملة «سنوات الأحلام الخطرة. وثانيا: الفيلسوف آلان باديو فى رؤيته الفلسفية المركبة التاريخ: ميلاد جديد. ويعد «جيجيك وباديو» من أهم الفلاسفة المعاصرين فى أوروبا. وثالثا: رسالة الشاب البلجيكى القيمة بريخت دى شميدت «جرامشى فى التحرير». ورابعا: المقاربة الثقافية لجيمس جاسبر.. وكلها مقاربات ثرية تتكامل فيما بينها لتغطى جوانب عديدة من المشهد التاريخى لحراك 25 يناير: مقدماته، وعمقه، وامتداداته. وفى هذا المقام، يهمنى أن أؤكد أن المقاربات السابقة ما هى إلا مقاربات مختارة بعناية من مجموعة كبيرة من المقاربات، التى تعددت زوايا تناولها، لحدث تاريخى بامتياز. وسوف نضمها جميعا إلى كتابنا «سنوات الحراك: الطبقة الوسطى و25 يناير» لتعظيم الفائدة من تأمل هذا الحراك التاريخى.