«إنه زمن الانتفاضات، والشغب، إنها لحظة تاريخية حقيقية مختلفة».
(2)
عبارة تلخص رؤية الفيلسوف الفرنسى «آلان باديو» (81 عاماً) لحراكات الشعوب فى أماكن مختلفة من العالم، وفى أوقات متزامنة ومتعاقبة بين عامى 2010 و2011. وعليه قدم تحليلاً تفصيلياً حولها فى كتابه: «انبعاث جديد للتاريخ: أزمنة الشغب والانتفاضات» (صدر بالإنجليزية 2012) «The Rebirth of History: Times of Riot & Uprisings»، ويطرح الكتاب أفكاراً جديرة بالتأمل والنقاش، ذلك لأنه يفسر طبيعة التحركات «الميدانية» فى كل مكان، خاصة مصر. أخذاً فى الاعتبار أنه عاصر ثورة الشباب فى 1968 ويعتبر أفكاره المتمردة على «التنميط»، والتى تعتمد على منهجية النقد الجذرى لكل ما هو فكر سلطوى، فاشى، عنصرى، وغربى مهيمن،
هى من نتاج ما أحدثته ثورة 1968 كمحطة تاريخية فارقة بين عصرين قامت بتعرية المجتمع الغربى. ويعد أحد الفلاسفة الباقين ممن انخرطوا فى هذه الثورة. وقد قام ببلورة أفكاره فى مؤلفاته: «الوجود والحدث»، و«مانيفستو (بيان) من أجل الفلسفة» (1989)، و«فى مديح الحب» (2009).. إلخ.
(3)
فى كتابه «ميلاد جديد للتاريخ»، يحاول من خلال 10 فصول و120 صفحة، أن يصف طبيعة التحركات الميدانية التى جرت باعتبارها محاولة لمقاومة التراجع الشديد لمنظومة القيم التى أنجزتها البشرية عبر نضالاتها من أجل التحرر والعدالة. فهى تحركات تعبر عن «عصيان» شعبى كونى تاريخى ضد قيم الرأسمالية الشرسة. وكأن هذه التحركات تعيد «تمردات» الطبقة العاملة فى نضالها الأول الذى بدأته فى القرن التاسع عشر. نعم هذه التحركات كانت متناثرة، وتفتقد إلى فكرة قوية جامعة وإلى تنظيم فاعل إلا أن هذا لا يمنع أنها تعد «حدثاً تاريخياً»، ذلك لأنها حاولت أن تؤسس لتاريخ جديد.
(4)
فى هذا السياق، يقوم «باديو» بنقد حاد «لرأسمالية» اليوم. وهى رأسمالية تختلف كلياً عن رأسمالية الثورة الصناعية. فلقد صارت رأسمالية القلة التى يمكن أن تفعل أى شىء من أجل «الربح». ومن ثم «يرتهن» ملايين البشر لصفقاتهم العابرة للقارات، ولمشروعاتهم العملاقة. فقد يقومون بترضيتهم بحسب ما يرون، وبشروطهم، أو يقومون بسحقهم متى دعت الحاجة. فلقد تنكرت هذه الرأسمالية لقيم الليبرالية التنويرية والإصلاح والتحديث لصالح المحافظة وقدرية الفقر والإخلال بالعدالة واللامساواة. وعليه أصبح الجماهير أمام حائط سد. ما يعنى الحاجة إلى وقفة.
(5)
لقد شكلت «الحراكات» الشعبية- لـ«باديو»- نوعاً من التحدى اللافت لموازين القوة السائدة منذ 1979، ويقصد بذلك منذ تم الأخذ باقتصاد السوق الحرة. وفى هذا المقام يعدد «باديو» أشكال الشغب فى ثلاثة أنواع كما يلى: أولاً: الشغب الفورى المباشر «Immediate Riot»، مثل الذى واجهته إنجلترا فى 2011، أو ما جرى فى فرنسا من أحداث فى الضواحى. حيث تتفاعل الكثير من العوامل، وتدفع الجماهير، التى تنتمى فى الأغلب إلى الشرائح الدنيا من الجسم الاجتماعى، إلى التحرك. وهو سرعان ما يتوقف. ولكن لأن هناك عوامل أخرى أكثر من الإقصاء اللونى أو العرقى «كامنة» فى داخل الكثير من الطبقات والشرائح الاجتماعية فإن لأسباب: اقتصادية، وجيلية، وجنسية.. إلخ، فيما عرفه «باديو» ثانياً: بـ«الشغب الكامن» (Latent Riot)، يكون وقوداً جاهزاً للاشتعال متى تعاطفت الطبقات الوسطى مع الدنيا مع الوقائع الأليمة للفقراء والمهمشين، بالإضافة إلى ما بات يتهددها. عندئذ يتبلور ما يطلق عليه «باديو» ثالثاً: «الشغب/ العصيان التاريخى Historical Riot»، وقد تجلت فى هذا الشغب حالة «ميدانية» استثنائية. فبالإضافة إلى أساليب المقاومة المتعارف عليها أبدى المواطنون تضامناً فيما بينهم على اختلافهم النوعى: الدينى، الجيلى، الجنسى، الطبقى، الجهوى، العرقى، اللونى.. فكانوا يتبادلون الطعام، ويؤمنون أوقات الصلاة بين المختلفين دينياً، ويوفرون العلاج والأدوية للمصابين.. إلخ.
(6)
نعم لم يستطع هذا الحراك أن يقوم بإحداث تغييرات جذرية إلا أنه اتسم- بحسب باديو فى حوار أدلى به مؤخراً- بأنه كان «محاولة لتنظيم قالب جماعى ما لصنع القرار.. حركة خلقت مساحة جديدة تقع بين الموقف الحقيقى والموقف الرمزى». محاولة للتعبير عن نواقص تراكمت عبر تاريخ الدولة الحديثة فى مصر. نواقص عبرت عنها عناصر الحركة- على اختلافها- بالعيش والحرية والعدالة الإنسانية والكرامة الإنسانية.. ومن ثم حراك يناير هو حقيقة سياسية لا يمكن إنكارها.. ونواصل قراءتنا فى كتابات الغرب حول حراك يناير.