مثلما جرى فى أوروبا جرى فى الولايات المتحدة الأمريكية. بدأت «الصهيونية الدينية» تنحو نحو السياسة. وكان الفاعل الأساسى فى هذا التحرك هم أتباع الحركة «السابقية» (سابقو الألف، أو التدبيريون أو الحقبيون أو الدهريون) التى آمنت أولا: بالحكم الألفى، أو بعودة السيد المسيح كى يملك لمدة ألف سنة. وثانيا: بالتفسير التوراتى اليهودى للنص المسيحى. وثالثا: بتمييز اليهود باعتبارهم شعب الله المختار دون شعوب العالم وما يؤمنون به. ورابعا: إعادة توظيف النص الدينى التوراتى سياسيا من أجل تأسيس كيان قومى دينى سياسى لليهود.. وقد بدأ سعى «السابقون» منذ مطلع القرن التاسع عشر من خلال عدة محطات.
(2)
من العام 1800 إلى العام 1850 اشتد التركيز على عقيدة القداسة والعقيدة الألفية. وفى الأربعينيات من القرن التاسع عشر اجتاحت عقيدة تدعى «الميلرية» السواحل الشرقية للولايات المتحدة، وباع الكثير من أتباعها كل ممتلكاتهم ليلقوا المسيح فى عام 1843، بحسب ما كانوا يعتقدون آنذاك بأن المسيح سيأتى. وهى حالة روحية سادت إبان الصراع بين الشمال والجنوب الأمريكيين. على اعتبار أن نهاية العالم قد باتت قريبة. ويرصد المؤرخون أنه كلما اشتد الصراع السياسى والاقتصادى فى الداخل الأمريكى، والذى وصل إلى ذروته فى الحرب الأهلية الأمريكية (1860- 1865)، زاد التبشير الإحيائى التوراتى وزاد يقين البعض بالنبوءات اليهودية، خاصة الحكم الألفى وضرورة بناء الهيكل ووجود كيان يستوعب شعب الله المختار. وقد سمح هذا المناخ بأن تنتشر «عقيدة القدرية السابقية» بشكل لافت.
(3)
ومع نهاية عقد الثمانينيات من القرن التاسع عشر كانت القدرية السابقية، التى بدأت دينية، تتحول إلى الدعوة السياسية الصريحة من جهة. ومن جهة أخرى بدأت تستقطب هذه الحركة نفرا غير قليل من القادة الإنجيليين المحسوبين على التيار المتشدد المؤمن بالنهج التوراتى. نذكر من هؤلاء القادة الذين روجوا على نطاق واسع للصيغة السياسية من الصهيونية المسيحية: وليام إ. بلاكستون، مؤلف الكتاب الأفضل مبيعاً فى العام 1881 «المسيح آت». وقد ساهم فى تنظيم أول لوبى أمريكى مؤيد لإنشاء دولة يهودية بفلسطين. وقبل ستة أعوام من المؤتمر الصهيونى العالمى الذى عقده هرتزل.. كما أطلق بلاكستون حملة مكثفة لحشد التأييد من أعضاء بمجلس الشيوخ الأمريكى وقاضى قضاة المحكمة العليا، ونفراً من أكابر رجال الأعمال أمثال جون د. روكفلر، وتشارلز ب. سكريبنر، وج. ب. مورجان. وقد حثت الحملة بنيامين هاريسون، رئيس الولايات المتحدة آنذاك، على الدعوة من أجل إنشاء دولة يهودية بفلسطين. وقد كان لبلاكستون اتصال بهرتزل. وعندما بدأ الزعيم الصهيونى يناقش مع الحكومة البريطانية إمكانية إقامة دولة يهودية فى أوغندا أو الأرجنتين بعث إليه بلاكستون توراة قد خط فيه خطا تحت كل الفقرات التى تشير إلى إسرائيل وفلسطين، وأرفقه بتعليمات واضحة مفادها أنه لا يصح اختيار غير فلسطين موقعاً للدولة اليهودية.
(4)
فى هذا السياق، تم تأسيس إذاعة العقيدة القدرية السابقية. كما تم نشر طبعة سكوفيلد المرجعية للكتاب المقدس فى عام 1909. حيث حرص س. أى. سكوفيلد (أحد قيادات الصهيونية السياسية البازغة) على أن تتضمن هذه الطبعة على هوامش وتعليقات تستند إلى مرجعية العقيدة القدرية السابقية. ثم ما لبثت هذه الطبعة أن غدت الأكثر استعمالاً لدى المتشددين الدينيين الأمريكيين أو من يمكن أن نطلق عليهم الحركة الأصولية الحديثة. ولاحقا اليمين الدينى الجديد.
(5)
وباندلاع الحرب العالمية الأولى، أضحت القدرية السابقية المقاربة الوحيدة لكل مباحث الأخرويات فى صفوف الإنجيليين الأمريكيين الأصوليين. وقد استمدوا اسمهم وبرامجهم المتشددة من سلسلة من الكراريس التى نُشرت بين العامين 1910 و1915 والتى حملت عنوان «الأصول» ووزعت مجاناً فى أنحاء الولايات المتحدة كلها. وكان هؤلاء الأصوليون يدعون إلى اعتناق ما بات يصل إلى حد العقيدة التى تؤمن بإنشاء دولة يهودية فى فلسطين لأن هذا يعد تتميماً لما تضمنته النبوءات الكتابية فى هذا المقام.
(6)
مع نهاية الستينيات ومطلع السبعينيات تبلورت الصهيونية السياسية الأمريكية ذات التحالف الثلاثى من: اليهود، والمتشددين الإنجيليين، وبعض التجمعات الدينية غير المعترف بها مسيحياً (شهود يهوه والمورمون) يتحركون كجماعات ضغط من أجل تحقيق أهدافها. ومن أجل هذا تشكل العديد من المنظمات المدنية الأمريكية التى مثلت موجة جديدة فى مسيرة الصهيونية الدينية والسياسية الأمريكية.. وهو ما نلقى الضوء عليه فى مقال الأسبوع المقبل.