من القضايا التى حظيت باهتمام الأستاذ محمد عمر فى كتابه «حاضر المصريين أو سر تأخرهم» الصادر عام 1902. هو هذه الخصومة المفتعلة بين «الوطنية والدين». فيفرد لها مبحثاً خاصاً يعمل فيه على ضبط المفاهيم فى ضوء تطور المجتمعات التى تقدمت من جهة. وفى ضوء خبرة الحياة المشتركة بين المصريين على اختلافهم.. ففى البدء يضع تعريفاً لمفهوم الوطنية يعبر عن الدولة الحديثة قيد التأسيس، والتى تحاول الانتقال من الروابط الأولية: كالطائفة، والذمة، والعشيرة... إلخ، إلى رابطة الوطن الواحد.. لذا يُعرِف «الوطنية» بما يلى: «هى الشعور الذاتى برابطة الانتساب التى تجمع بين الإنسان ووطنه، ومن يشترك معه فى هذه النسبة أى بوحدة مصلحة الطرفين ولضرورة السعى فى رفعته وتقويته والزود عنه».
(2)
ويؤكد محمد عمر أن «الجوهر فى الوطنية هو وحدة المصلحة» بين المواطنين فى الوطن الواحد. وهى فكرة راقية جداً. ذلك لأن وحدة المصلحة بين هؤلاء المواطنين تعصم الجسم الوطنى من «تفكيك عناصره». كما تخلق رابطة بين دوائر الانتماء المختلفة أو مجالات حركة المواطن. ويدلل على ذلك بأن «خليات أعضاء الجسم متحدة لوحدة مصلحتها وحاجاتها». إذن، وحدة المصلحة أو باللغة المعاصرة المصلحة الوطنية العليا للوطن العنصر الحاكم للوطنية. وهو أمر يتطلب توافقاً بين المواطنين بالحوار حول «تحديد هذه المصلحة، ومعرفة ماهيتها، ومن أين تبتدى، وأين تنتهى».. وعليه يقول المؤلف هكذا حال الأمم الراقية التى «أدركت هذه الحقيقة تماماً فلا تخلط فيها وتبنى جميع أعمالها وسياستها عليها فتصبح قويمة الدعائم يندر أن تفعل فيها تقلبات الدهر فعلاً محسوساً» والعكس صحيح، حيث غياب الوطنية إنما يعنى خنوع الأمم المختلفة لتقلبات الدهر ما يجعلها دون الرقى. والأخطر يجعلها تفقد «قوتها» وتعجز «ليس عن المقاتلة فقط بل عن المحافظة على حياتها فتغتالها القوات المُحاطة وتصبح فى حكم العدم».. ويدلل على ذلك من خلال دراسة مقارنة وردت فى الكتاب.
(3)
ويخلص إلى أن الوطنية بهذا المعنى «لا تتنافر» مع الدين.. فالدين «عبارة عن اعتقاد بتعاليم خصوصية لا تتعدى دائرة الضمير، وهى قاصرة على علاقة الإنسان بربه، إنما تسن إليه القواعد التى تتعلق بشؤونه مع غيره فى دائرة علاقاته الأدبية لا فى علاقاته الاجتماعية التى يعود أمرها إلى القوانين النظامية السياسية. فوحدة الدين هى فقط الارتياح الذى يشعر به الإنسان عندما يرى آخر مشاركاً له فى رأيه ومذهبه. والمصلحة الدينية قائمة فقط فيما يجده الإنسان فى شريكه فى الاعتقاد من التعضيد فى إقامة الشعائر الدينية، التى ربما يعجز الفرد الواحد عن إقامتها بالاحتفال المألوف. فكل ذلك يزيد الاتحاد قوة وجمالاً ولكنه فى الحقيقة خارج عن العلاقات الضرورية التى تحتاج الوطنية إليها».. كلمات فى ظنى تلخص الخبرة المصرية التاريخية الجدلية للعلاقة بين الدين والوطنية.
(4)
وبعد، لا يصح أن تكون هناك خصومة أو «تنافر أو عداء» بين الدين والوطنية. أو أن نذهب «للانقسام إسلامياً بين عرب وترك» (وهو الانقسام الذى وقعت فيه الحركة الوطنية/ السياسية آنذاك). أو الانقسام «مسيحياً بين أرثوذكس وكاثوليك... إلخ». وكل «قسم إن لم يكن مهتماً فى إذلال غيره فهو على الأقل يعمل لمصلحة خاصة دون أدنى ارتباط بالمصلحة العامة. وهم جميعا يشتغلون (عملياً) ضد مصلحة أنفسهم ولخدمة الأجانب الذين لا غاية لهم إلا ابتلاع البلاد وما فيها، وإماتة العواطف الوطنية للإجهاز... على البلاد».. لذا لا يجب أن تكون للمسلمين «جامعة» عن «جامعة المسيحيين».. وهنا تأتى أهمية الوطنية كجامعة للجميع.. بها يمكن تحقيق التقدم.. حيث «لابد من الاجتماع حول معيشة واحدة تحت سماء واحدة وأحكام واحدة.. فلا وطنية حقيقية بلا اتحاد حقيقى أو (رابطة المواطنة) بلغة العصر».. «ولا فلاح ولا استقلال بدون وطنية» وهو أمر «لا ينافى الدين».
(5)
وهكذا، لن يتحقق التقدم- بحسب رؤية محمد عمر مطلع القرن العشرين- ما لم يتم تجاوز الفجوة بين الأغنياء والفقراء.. والأخذ بسياسات عادلة.. كذلك الأخذ بالعلم فى كل مناحى الحياة والابتعاد عن الخرافات والغيبيات.. والتوحد الوطنى وعدم توظيف الدين فى السياسة.. ونواصل.